بمثل هذه الأيام من سنة 1935 م كان المستشرق الانجليزي ( ديكسون ) وأسرته يخيمون عند مجموعة من البدو في صحراء الشق غرب الكويت وفي ليلة انخفضت بها درجة الحرارة حتى تجمد الماء داخل القرب أثناء ما كانوا يجتمعون مع جيرانهم في جو اسري مفعم بالمحبة والود يتلذذون بدفء نار المخيم وهم يتدثرون بالفراء المصنوعة من جلود الغنم أثناء ما أطبقت السماء فجأة بركام من السحب الثقال يسوقها البرق وأزيز الرعد عند ما أضافوا كميات من الحطب ثم هبوا لإحكام تثبيت جوانب خيامهم فيما ركض البقية لجمع الإبل والأغنام مع بدء هطول المطر المصحوب بزخات البرد ليشل بعد ذلك حركة كل من كان يحاول السيطرة على الموقف، وفجأة تعالت بعض اصوات الاستغاثة تردد ان الصغيرة ( دغيمة ) لم تعد للمخيم ودغيمة طفلة جميلة يتيمة الأم تبلغ سن العاشرة تبين فيما بعد أنها خرجت بعد ظهر ذلك اليوم لتلحق بإبل والدها على بعد أربعة أميال وليس عليها من الملابس سوى ( دشداشة ) قطن حمراء دقيقة النسيج بينما كان والدها قد غادر مبكرا لشراء بعض الاحتياجات من سوق الكويت . يقول ديكسون في كتابه الكويت وجاراتها مستكملا ما حدث لهم تلك الليلة : تحولت الأمطار إلى سيل جارف ورغم اننا ضربنا خيامنا فوق ارض مرتفعة نسبيا الا ان المياه تدفقت إلى داخل الخيام وراحت تكتسح أرضيتها فتدخل من احد الجوانب لتخرج من الجانب الآخر وكان أقصى ما استطعنا ان نفعله هو ان كومنا امتعتنا فوق بعضها البعض وجلسنا على قمة هذا الكوم والظلام يلفنا جميعا، لكن ( دغيمة ) المسكينة كانت هي شاغلنا الشاغل وبذل سالم واثنان من العوازم جهدا بطوليا خارقا من أجل الوصول اليها أثناء الليل، ولكنهم لم يتمكنوا من المضي في طريقهم الا لمسافة قصيرة واضطروا إلى العودة عند منتصف الليل . وقد خارت قواهم وسيطر القلق على الجميع وكنا على يقين من أن الفتاة الصغيرة فاضت روحها منذ وقت طويل نتيجة البرد الشديد توقفت الأمطار الساعة الرابعة صباحا مخلفة وراءها ارضا تغطيها البرك والمستنقعات يطبق عليها ضباب كثيف ومع ذلك خرجت فرقة أخرى للإنقاذ اشتركت فيها بنفسي ومعنا دليلنا سالم لنرى ماذا يمكننا أن نفعله، وأخذنا نتحسس طريقنا ببطء على الطريق الذي تقطعه الجمال إلى الكويت ومررنا من المكان الذي شوهدت فيه دغيمة لآخر مرة، كانت الآكام تتناثر بغزارة على جانبي الطريق وتتكون من كتل كبيرة من أعشاب الثندة الجافة تشكلت حول قواه أكوام من الرمال يبلغ ارتفاع بعضها أربع أقدام ولذلك كان السير في هذه المواقع بالغ المشقة، عند الفجر وصلنا إلى مرتفع حدده سالم ولكننا لم نجد أي شيء ينم عن وجود دغيمة أو جمالها أو عن آثار لأقدامها هي والجمال وتوزعت مجموعتنا في البحث عنها في أكثر من اتجاه ونحن نتوقع العثور على جثة الطفلة، وقد تجمدت لشدة البرودة ولم تكن الجمال تعنينا في شيء ذلك الوقت، وفجأة سمعنا صرخة تتعالى فهرع الجميع نحو الرجل الذي أطلقها وهو يلوح ببشته. كانت دغيمة تجلس القرفصاء داخل ( جحر ثعلب ) كانت لا تزال على قيد الحياة ولكنها كانت خائرة القوى وعاجزة عن الحركة نتيجة لشدة البرودة . وأخرجناها ثم عدنا بها إلى المخيم والبهجة تحيط بنا جميعا . وبعد أن نالت قسطا ملائما من التدفئة أمام النار، وبعد أن أعطيناها وجبة ساخنة وشرابا دافئا، أمكننا ان نستمع منها لقصتها . وفي لغة طفولية راحت تحكي كيف تشتت جمالها في الظلام عند ما بدأ هطول المطر، حتى غابت عن بصرها . ولما كانت على حد قولها فتاة بدوية ذكية وموهوبة قررت ان تحاول العودة للمخيم ولكنها عجزت عن ذلك نتيجة للسيول الجارفة والبرد القارص وقررت بعد أن فاض بها الكيل وقهرتها شدة الريح أن تبحث عن مأوى أسفل الآكام الرملية المنتشرة حولها وأخذت تجر خطاها في محاولة للعثور على أكمة كبيرة . وقالت لم اصرخ على الإطلاق لكنني شعرت بشيء من الخوف ثم ساعدني الله وهداني إلى ( جحر ثعلب ) قمت بتوسيعه وتعميقه , لم يكن الأمر صعبا لسهولة رفع الرمال المبتلة وغصت داخل الجحر بعيدا عن تأثير الريح التي كانت تدفع مياه الأمطار فوق قمة الجحر وداخل الجذور الكبيرة، لذلك لم يكن يدخل الجحر إلا القليل من مياه الأمطار . وأحطنا دغيمة بكل الرعاية في اليوم التالي ليس فقط لما أبدته من جسارة وقدرة على التصرف في مواجهة الخطر . إنما أيضا لأنها عضو عزيز جدا في أسرة مخيمنا ووصل والدها بعد يومين إلى مخيمنا وهو يكاد يتجمد لشدة البرودة ولم يكن يشغله سوى جماله وكانت ملاحظته الوحيدة عند ما سمع قصة مغامرة ابنته هي : الحمد لله فقد فعلت خيرا وماذا يمكنكم ان تتوقعوا من ابنتي . ؟ إنها شيطانية صغيرة من البادية .!