الاضطهاد الذي يتعرّض له الغجر اليوم في فرنسا وبضعة بلدان أوروبية أعاد الى ذاكرتي ديوان «أغاني الغجر» للشاعر الإسباني الكبير فيديريكو غارثيا لوركا. فهذا الديوان الذي صنع مجد لوركا في إسبانيا والعالم، يختصر فعلاً مأساة الغجر التاريخية ويتمثل روحهم الجماعية ووجدانهم الغنائي. وقد يكون هذا الديوان بمقطوعاته الغنائية الخمس عشرة، من أجمل ما كتب من شعر «غجريّ»، مع أن لوركا لم يكن غجرياً وإن كان يشيع بين رفاقه أن دماً غجرياً يسيل في عروقه. ولم يتوان رفاقه عن تسميته «البلبل الغجري» الذي كان يحلّق في سماء الأندلس. وجد لوركا في «الهوية» الغجرية التي لا تملك صفة الهوية أو الانتماء، مرجعاً شعرياً وإنسانياً، فالغجر يمثلون نماذج بشرية نادرة استطاعت أن تحافظ على البراءة الأصلية والفطرة الأولى، وأن تقاوم ثقافة العصر و «أخلاقه» الجديدة. ولا شك في أنه استوحى قصائده الغنائية في هذا الديوان من أغانيهم وموسيقاهم ومن تراثهم القديم. وقد جعل من هذه القصائد فضاء شعرياً تتجلّى فيه طبيعة الأندلس البهية، بحدائقها وحقولها وسمائها ونجومها وقمرها وينابيعها ومساكب الياسمين والقرنفل والريحان، وباليمائم والخيول، علاوة على أناس الأندلس، الفلاحين والحصّادين الذين كانوا ينتمون الى سلالة الشعب الغجري المضطهد والمنبوذ والمهمش. «يا لعذاب الغجر! يا لعذابهم النقي والمتوحّد»... يقول لوركا الذي كان يرى نفسه واحداً منهم، هو الشاعر التائق دوماً الى اختراق تخوم العالم والى التيه تحت سمائه الواسعة. وكان يحلو له أن يسبغ على صفة «الغجري» سمات فريدة، ففي هذه الصفة «ما يحفظ الجمرة، الدم والألفباء للحقيقة الأندلسية والعالمية». ليت الذين يضطهدون الغجر اليوم - أياً كانوا - يعودون الى هذا الديوان البديع الذي اصدره لوركا عام 1928، قبل ثمانية أعوام من مصرعه على يد الفاشيين الإسبان. هم طبعاً لن يتراجعوا عن خطوتهم القاسية واللاإنسانية، ولن تهزّهم هذه القصائد أو تترك فيهم أثراً. فالسلطات لا يعنيها الشعر ولا الشعراء، وقد جعلت من قضية الغجر قضية سياسية بامتياز، وربما اقتصادية أو وطنية. والغجر أصلاً لم يعرفوا في تاريخهم الطويل سوى الاضطهاد والاقتلاع والهجرة من إقليم الى آخر، حاملين معهم جروحهم وأغانيهم وتقاليدهم الغريبة. ولعل ما يميّزهم أو يسمهم هو روحهم المسالمة ونزعتهم الى الحرية والحب والحياة، وعيشهم على الهامش، حتى وإن اضطرهم هذا الهامش الى ارتكاب آثام صغيرة جداً ونافلة هذا شعب لا تغريه السياسة ولا القوميات ولا الأمجاد أو الأوطان. إنهم في كل مكان وليسوا في مكان. العالم بيتهم، كما يفيد عنوان ديوان الشاعر الغجري بيدرو أمايا، هذا الشاعر الذي عاود كتابة الكثير من الأغاني الغجرية في لغة ذات هاجس شعري وقد ترجم ديوانه الى الفرنسية. أما دينهم فهو دين البلدان التي يحلّون بها ضيوفاً موقتين أو عابرين. إنهم «أمميون» ولكن بلا قضية ولا أيديولوجيا ولا رسالة يوجهونها الى الشعوب. لا أستطيع أن أتصوّر الغجري إلا شاعراً، شاعراً غنائياً سواء غنى الشعر أم ارتجله قولاً. هذا الانطباع تركته فيّ الأشعار الكثيرة التي تمكّنت من قراءتها في ترجماتها الفرنسية والعربية. وقد ترجمت الى الفرنسية دواوين عدة من هذه الأشعار التي لا تسمى إلا أغنيات أو أغاني. وكانت منطلقاً لقراءة «الحضارة» الغجرية المتراكمة جيلاً بعد جيل، الشفوية الطابع، الشعبية والفطرية. وفي العربية عكف الكاتب العراقي نامق كامل والسوري عبدو زغبور وسواهما على ترجمة مختارات من الشعر الغجري وبعض الأبحاث التي وضعت حوله. الكتاب الذي ترجمه نامق كامل عنوانه «أغاني الغجر» وكذلك الكتاب الذي ترجمه عبدو زغبور. الغجر لا يكتبون إلا الأغاني. حتى الملاحم النادرة التي كتبوها كانت غنائية صرفاً. فالشعراء الغجر هم عادة مغنون، يرتجلون الشعر وموسيقاه، ويؤدّونهما في تجوالهم ولقاءاتهم. هم لا يكتبون عادة، يرتجلون ويحفظون ما أمكنهم أن يحفظوه وقد تخونهم الذاكرة في أحيان. وأجمل ما في أغانيهم نفسها القصير ولحظتها الخاطفة. أغانٍ بعيدة جداً عن الإبهار اللفظي والفصاحة والإفاضة. فهي ليست قصائد مكتوبة، لكنها لا تخلو من الإيقاع المضبوط والموسيقى. حتى في الترجمة تظل الأغنية محافظة على إيقاعها. أغان كتبت في لغات عدة، هنغارية أو رومانية أو صربية أو كرواتية أو مقدونية أو اسبانية وسواها، لكنها تحمل لغة واحدة خفية هي لغة القلب الغجري أو الوجدان الغجري. وقد تكون هذه الأغاني خير مرجع لتقصّي أحوال هؤلاء البشر المترحلين باستمرار والفارّين دوماً من الاضطهاد، وقد كان الاضطهاد النازي لهم من أقسى ما عانوا. عندما يحلم الغجري يبصر نفسه حصاناً يخب في السهول والصحارى. وهو الحصان الذي جعل منه لوركا في ديوانه الشهير رمز الهوى والحرية. وإذا صلّى الغجري فإنما بطرافة يصلّي قائلاً: «لا تدعني أموت يا رب. سأختبئ تحت السرير». قد لا يكون سهلاً خوض تاريخ الغجر وأصولهم والبحث عن جذورهم ونشأتهم، فتاريخهم معقّد جداً، وقد ضاعت وقائعه في تواريخ البلدان التي أقاموا فيها أو ترحلوا بينها واختلطت ذاكرتهم في ذاكرات الشعوب التي عاشوا بينها كالغرباء. لكن الغجر يمثلون حتى الآن شريحة بشرية نادرة، مهددة بالزوال. وهم على رغم الضوضاء التي يثيرونها في أوروبا والعالم، ليسوا إلا أقلية صغيرة جداً، ويجدر بالعالم أن يحافظ عليها. إنهم جنس من البشر تحتاج البشرية إليهم، لأنهم فريدون في حياتهم المقتلعة وثقافتهم وانفتاحهم، وحتى في آثامهم الصغيرة أو البيضاء.