ارسل لي ابني الذي يدرس في كندا وقال: "لو أنه كلما نزل مطر أعطيت المدارس والجامعات إجازة لكانت الاجازة في كندا طوال العام"، فقلت له "يا ابني والله لقد كانت تسقط علينا الامطار لأيام ولم تكن المدارس تغلق وكانت بيوتنا من الطين وشورعنا من التراب لكني لا أعلم ماذا جرى لنا". والحقيقة أن كل من يقف ويفكر في حالنا هذه الأيام يستغرب أننا "نخاف من المطر" وحتى لو لم تعط إجازة رسمية للطلاب، الناس أنفسهم يمنعون ابناءهم وبناتهم من الذهاب للمدرسة، وهذا في حد ذاته مؤشر واضح على عدم الثقة في "الخدمات" التي تقدمها المدينة ومؤسساتها. في الماضي كانت تنهمر الامطار وكنا نلهو ونلعب معها واليوم نخاف منها، لأن مدننا كانت صغيرة وبنيتها التحتية قوية وأذكر هنا أن أول مشروع صرف صحي في المدينة القديمة التي كنت أسكنها (الهفوف) عمل قبل أكثر من 40 سنة ومازال فعالا حتى اليوم ويندر أنه تعطل أو حدثت له مشكلة بينما توسعت مدننا اليوم ببنية تحتية مترهلة وغير مدروسة، أنفقت عليها الدولة مئات المليارات دون جدوى. قطرات من المطر تغرق مدنا بأكملها وتجبر مؤسسات التعليم في الدولة إعطاء إجازات للطلاب وتجعل من إدارة الدفاع المدني "تحذر"، وكأننا في أزمة. إنها حالة لا توجد في مكان آخر، فقد عشت سنوات من عمري في بلاد تهطل عليها الامطار شبه يوميا وبغزارة تتجاوز أقصى ما يحدث عندنا، ولم اسمع في يوم إعلانا لحالة طوارئ أو أن الطلاب (حتى طلاب الحضانة) أعطوا إجازة. ليس من المعقول أن ننفق كل هذه الثروات على مدن «تغرق في شبر ماء» وشوارعها بدائية ولا يوجد فيها أرصفة تمشي عليها الناس. ما أتصوره أن «جشع العقار» كان أقوى وأسرع من مقدرة مؤسسات الخدمات في المدينة السؤال الذي يجب أن نسأله لأنفسنا هو: ماذا حدث لمدننا خلال الثلاثة عقود الأخيرة، كيف كبرت هذه المدن وتراجعت مقدرتها على حماية من يسكنها؟ هذا السؤال يجب أن يوجه بشكل خاص لمن قاموا على تخطيط هذه المدن وعلى من عملوا على بناء بنيتها التحتية لأنه ليس من المعقول أن تغرق شوارع في العاصمة وتتفاجأ ببعض مداخل الطرق السريعة فيها مغلقة وغير صالحة للمرور لأن المطر تساقط لبضع ساعات، وليس من المعقول أن تمر في طرق ممتلئة بالماء وتكتشف أن بها حفرا لم تغلق وترى نفسك وسيارتك قد قاربت على الغرق في تلك الحفر. هذه الظواهر التي تتكرر كل عام ولا تجد حلا تضع علامة استفهام كبيرة على البنية التحتية للمدينة السعودية التي تتمدد في كل اتجاه وتكبر كل يوم لتخلق مشاكل جديدة ومعاناة جديدة لمن سيسكنها في المستقبل. أعتقد أن التوسع العقاري الذي طرأ على مدننا وظهور طبقة من "التجار الجشعين" الذين حولوا المدينة إلى "مشروع تجاري" يقطعونه ويتقاسمونه بينهم وفي ظل غياب سياسة عمرانية واضحة تجبر الجميع على احترامها واتباعها، هو الذي صنع أزمة مدننا الحالية، لأنه ليس من المعقول أن ننفق كل هذه الثروات على مدن "تغرق في شبر ماء" وشوارعها بدائية ولا يوجد فيها ارصفة تمشي عليها الناس. ما أتصوره أن "جشع العقار" كان أقوى واسرع من مقدرة مؤسسات الخدمات في المدينة وبالتالي حدث خلل في البنية التحتية صار يكبر يوما بعد يوم، وصارت هذه المؤسسات تحاول أن ترقع ما أمكن لكنها لن تستطيع لأن مفهوم المدينة "أكبر" من "الترقيع" ويحتاج إلى تكامل بين التخطيط والموازنات المتوفرة مع وجود رجال مخلصين يعملون من أجل الناس لا من أجل أنفسهم. وبالطبع أنا لا اريد أن أحمل تجار العقار كل المسؤولية، لأنه لو كان هناك "نظام" صارم وتخطيط حقيقي على ارض الواقع لا على الورق (لأننا نحن من ابتدع التخطيط الورقي الذي لم يطبق في يوم من الأيام) لما أمكن للعقاريين التلاعب بمدننا وإجبارنا على وضع ايدينا على قلوبنا كل ما سقطت نقطة ماء من السماء. بالنسبة لي لن أعود لفكرة محاسبة من تسبب في هذه الحالة، لأنه من الواضح أنه لا يوجد هناك رغبة في هذا التوجه فقد سمعت من أحد المسؤولين قوله "دعونا من المحاسبة وفتح الملفات القديمة، فإذا أردنا المحاسبة فيجب أن تكون على الجميع لا أن تكون لمن تسبب في مشكلة ما"، ويبدو هنا واضحا أن الرغبة في فتح الملفات القديمة غير مرغوب فيه ولا أعتقد أنه سيحدث في يوم ما ولكن على الأقل نريد أن نقف بحزم امام استمرار الاخطاء وتكرارها وأمام انفراد بعض المسؤولين بالرأي وبتوقيع عقود البنية التحتية دون دراسة ودون وجود مخطط توجيهي عام للمدينة على مستوى الخدمات في ظل غياب شركات محلية لديها المقدرة التقنية على حل المشاكل وغياب مستمر للمحاسبة وشراهة وجشع لمجموعة من العقاريين الذين يفكرون فقط في حساباتهم البنكية دون أن يقفوا للحظة واحدة كي يفكروا في حياة الناس. وبالطبع لن استنجد هنا بهيئة مكافحة الفساد التي لا نعلم عنها شيئا منذ ان أعلن عن تأسيسها، ويبدو أنه ستمر فترة طويلة حتى تستطيع هذه المؤسسة ممارسة دورها، فالوقت بالنسبة لها غير مهم، بينما الأزمات والكوارث تتراكم على ابوابنا، ويجب علينا أن نفعل شيئا سريعا للتقليل من تأثير هذه الكوارث على مجتمعنا. المطر كشف لنا ظواهر عمرانية وإدارية كثيرة خلال الأعوام الأخيرة، وأتمنى أن لا يكون القادم أسوأ، لكن ما يحزنني فعلا هو أننا مازلنا نتبع سياسة ردة الفعل، والذي يحزنني أكثر هو أنه مرت علينا سنوات كثيرة ونحن نردد نفس الكلام، لأنني أعترف هنا أن ما ذكرته هنا، سبق أن قلته مرات كثيرة وفي نفس هذه الصحيفة، ويظهر لي اننا فقدنا المقدرة على الانصات ولم يعد لدينا رغبة في حل مشاكلنا باسلوب عملي، ربما نتيجة لخوف البعض من المحاسبة وخوفه من فتح الملفات القديمة، ويبدو أنها ملفات شائكة، لكننا اليوم أمام مشاكل كبيرة ولا نريد أن تصبح "مستعصية" على الحل بل يجب أن نواجهها بشجاعة.