تظل أحياء الرياض المتناثرة في شرقه وغربه.. شماله وجنوبه تحمل بين صفحات التاريخ وكتب الرحالة امتداداً تاريخياً يضرب بأطنابه إلى العصور الساحقة في زمن العرب البائدة وحتى العصور الإسلامية الزاهية مروراً بالعصر الجاهلي، وإذا كانت أحياء السلي والمصانع ومنفوحة قائمة منذ العصر الجاهلي، بل مذكورة في قصائد فحول شعراء ذلك العصر، فإن ثمة أحياء برزت وأُنشئت في العصر الإسلامي كالفوارة "الفاخرية" التي أهداها رسول الله صلى الله عليه وسلم ل"مجاعة بن مرارة ارتبط تاريخه بملعب الصايغ وسكة القطار والمطار وفنادق ماريوت واليمامة والشرق وإنشاء الوزارات الحنفي"، وخنشليلة التي سميت على "جليلة" زوجة الوجيه "عبد المحسن الدرعي الحنفي"، حين وضعت لحجاج المشرق فندقاً أو نزلاً ينزلون به في طريقهم إلى الحج، وهم الذين سموه "خان" أي فندق في لغة أهل المشرق ليصبح "خان شليلة" بدلاً من جليلة، وهكذا حال كثير من شوارع مدينة الرياض التي تعود بمسمياتها مئات السنين كشارع العطايف المسمى على أصحابه من "آل عطيفة من بني خضير من الأشراف" أواخر القرن الثالث الهجري، وشارع السبالة وآل ريس والسويلم، وكذا هي أسواق الرياض القديمة وباقي أحيائه -سبق الحديث عنها في تقرير سابق في هذه الصفحة-، إلاّ أن الحديث عن حي الملز يبقى حبيس بعض كتب الرحالة والمؤرخين الذين تناثرت معلوماتهم عن هذا الحي هنا وهناك، والذي سعينا اليوم إلى جمع ما يمكن جمعه عن حي الملز الذي كان سمي في وقت مضى بحي البحر الأحمر والذي مثّل في فترة مضت، وربما حتى الآن الوجه المشرق للعاصمة الرياض. لقطة لمطار الرياض القديم عام 1371م توثيق الرحالة فات على الكثير ممن أرّخوا لمدينة الرياض أن الرحالة المسلم "أبن جبير" كتب وهو عائد من أداء مناسك الحج؛ عمّا نسميه الآن (شارع الستين) أو طريق صلاح الدين الأيوبي وسط حي الملز والجبل المخروق، قائلاً وهو في طريقه إلى بغداد العراق:"بعده نزلنا بالجبل المخروق وهو جبل في بيداء من الأرض، وفي سفحه دكان «حبيص» يعج بعشاق «الفصفص» وينافس بقالة «الشيبة».. الأعلى ثقب تخترقه الرياح"، ثم أكمل "أبن جبير" مسيرته قاطعاً ما نسميه اليوم مدينة الرياض من شمالها إلى جنوبها، والغريب العجيب أن "ابن جبير" الذي عاصر "صلاح الدين الأيوبي"، وأُعجب به أيما إعجاب لم يمر في طريقه لبغداد مع الطرق الأخرى الموازية لموقع مدينة الرياض الآن، بل قطع طريق صلاح الدين الحالي، وكأنه على علم بأن هذا المكان سيحمل بعد تسعة قرون اسم هذا السلطان الذي عاصره "أبن جبير" وأعجب به!. أما الرحالة "أبن بطوطة" الذي زار المنطقة بعد "أبن جبير"، بما يقارب القرنين فقد عبر ذات الطريق وكتب قائلاً: "ثم رحلنا ونزلنا الجبل المخروق وهو في بيداء من الأرض في أعلاه ثقب نافذة تخترقه الرياح"، ومع بدايات تأسيس المملكة كان حي الملز خارج نطاق العاصمة بدليل أن مطار الملك عبدالعزيز أقر بناؤه خارج المدينة، إلاّ أن الملك المؤسس كان كثيراً ما ينزل إلى الجبل المخروق، وكذلك غار المعذر، وذكر "الريحاني" كيف أن الملك استقبله في الجبل المخروق وطلب من "صالح العذل" (صالح باشا) أن يقدم إليه ليقص له قصة لقائه بالخليفة العثماني آنذاك. شارع الستين قبل ربع قرن تقريباً كما ذكر "وليم فيسي" قبل أكثر من ستين عاماً في كتابه الرياضالمدينة القديمة أن الطائرات في بداية تحليقها فوق سماء الرياض كانت تهبط في حي الملز الذي لم يُعرف قبل بناء مطار الملك عبدالعزيز، وذلك حين قال: "عقد اتفاق مع شركة TWA في سنة 1946م لتوفير طيارين والخدمات المساندة لها، هكذا كانت ولادة الخطوط الجوية الحكومية السعودية، وحتى عام 1953م استخدم ميدان سباق الخيل القديم ذكريات لا تنسى مع بروستد الكوخ ومخابز العجاجي وسمبوسة غوار وفلافل عرفة ومطاعم الفارس والجندول الذي يبعد حوالي ميلين من المدينة القديمة وليس بعيداً عن محطة سكة الحديد مهبطاً للطائرات". كما أوضحت ذلك خارطة "ديكسون" الذي رسمها لمدينة الرياض وما جاورها عام 1937م. سبب التسمية ويُذكر أن سبب تسمية الملز عائد إلى كونه ملزاً للخيل، وإلاّ فقد سمي في بداياته البحر الأحمر، وذلك للأرض السبخة التي كانت تقع في مكان النادي الأدبي حالياً وحديقة الملز بين شارع صلاح الدين الأيوبي وشارع الجامعة. كما كان من ضمن بدايات حي الملز إنشاء ملعب الصايغ في الخمسينات الميلادية، وكذا سكة القطار وفندق ماريوت هذا من الناحية الجنوبية، أما شمال الحي فبدأ بمطار الملك عبدالعزيز، وإنشاء الوزارات، وفندق اليمامة، وفندق زهرة الشرق، وبرج العرب ذو الشكل الأسطواني -الذي أُزيل قبل عامين-، ثم حديقة الحيوان وسط حي الملز. جبل أبو مخروق وسط حي الملز في السبعينات بداية الإعمار وحي الملز كان بين أحياء مدينة الرياض متميزاً في مكانه وسكانه وخدماته ومرافقه، فقد كانت نهاية السبعينات وبداية الثمانينات الميلادية تمثّل حضارة هذا الحي المأنوس بعد أن بدأت ملامح عمرانه في منتصف الخمسينات الميلادية، ممثلة بإنشاء مقار ومبانٍ لمعظم الوزارات والهيئات والمرافق الحكومية في شارع الملك عبدالعزيز بعد إنشاء مطار الملك عبدالعزيز، وفندق صحاري، وجامعة الملك سعود من لم يقتن سيارة (L 042) وتغبيرة «البيكب» والجنوط الخليجية فقد فاته قطار الشباب على شارع الستين (صلاح الدين الأيوبي) حالياً؛ ما دعا الدولة أن تنشئ عمائر طوال متعددة الطوابق على جانبي شارع الستين لسكن موظفي الوزارات، لا سيما وزارة الدفاع التي سمي الحي المجاور لها حي الضباط لأن أغلب من يسكنه من منسوبي الوزارة، وكذلك للإسكان الذي وضع لهم من قبل وزارة الدفاع. وفي نهاية السبعينات الهجرية وفد ثلّة من رجال الأعمال الخليجيين بغية المشاركة في استثمار بعض من هذه الأراضي والمرافق كفندق اليمامة، إلاّ أنهم ما لبثوا أن عادوا إلى بلادهم لأن المكان حسبما رأوه صحراء خالية وحينها لم يكن حي الملز قد خطط أو تحددت ملامحة كحي سكني. ملعب الملز خلال افتتاح دورة الخليج 1972م حضارة الملز يكاد سكان حي الملز أن يجمعوا على أن الحي بلغ ذروة نشاطه وأناقته في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات الميلادية، بل إن بداية الثمانينات كانت تمثّل الوجه المشرق لحضارة حي الملز، إذ ما زال أبناء تلك الحقبة في هذا الحي يذكرون أسبقية الملز لكثير من الأحياء، لا سيما في مجال المطاعم والملاعب والحدائق العامة، ففي عام 1385ه كان ثمة مقهىً على طريق الملك عبدالعزيز "طريق المطار القديم" قرب مبنى البريد الحالي يبيع "الكابتشينو" و"الموكا"، ولك أن تتصور هذه النقلة في نشاط محلات القهوة والمقاهي؛ في حين لم يكن هذا الصنف من القهوة معروفاً في بعض العواصم العالمية لاسيما في ذلك التاريخ، كما أن الأسواق ملاعب «السعيد» و«الهطلاني» و«النملة» خرّجت جيلاً ذهبياً..و«الكابتشينو» و«الموكا» حاضرة بين الجميع قبل 40 عاماً المركزية ممثلة ب "سوبرماكت" السدحان في شارع الستين (صلاح الدين)، وقبلة كان ثمة منافس آخر في شارع الملك عبدالعزيز وكلها كانت في حي الملز، ناهيك عن أن وجبات "البرجر" والبروستد ممثلة بمطاعم الكوخ، وكذلك السمبوسة والمطبق في مطاعم غوار، وما تحمل هذه المحال من ذكريات كان لها الأسبقية على غيرها من المحال، ناهيك عن وجبات "البيتزا" و"الشاورما" والفلافل في بوفية عرفه ومطعم الجندول، والولائم في مطاعم الفارس ومخابز العجاجي، وكذا كان دكان "حبيص" جوار المتوسطة النموذجية يعج بعشاق "الفصفص" لينافس بذلك بقالة "الشيبة" في طابور لا ينتهي من طلاب المدارس ومرتادي ملعب الملز، كما كانت قصور الأفراح مملثة بقصر الملز والقصر الذهبي تهيم وتصدح في قرع طبول زف المعاريس وجمع العرسان تحت كوشة من الشرعة البيضاء و"الدانتيل" السكري. كما كان لمكتبة جرير في شارع جرير أسبقية في نظام القرطاسيات الحديثة رغم صغر مساحتها وكثر المنافسة من قبل مكتبات حي البطحاء والديرة وشارع الوزير، وكذا كانت العقارية الأولى والمستشفى الوطني ومكتبة المكتبة ومحال وأنشطة تجارية أخرى يصعب حصرها كان لها أسبقية الانتشار، حيث بدأت من حي الملز ومنه توسعت في نشاط تجاري واستثماري تزامن مع بدايات النشاط التجاري الحديث في العاصمة الرياض. مسافرون إلى المنطقة الشرقية يتوجهون إلى سكة القطار وما يزال سكان حي الملز يتذكرون بشوق ملاعب "السعيد" و"الهطلاني" و"النملة" التي خرجت جيلا من لعيبة العصر الذهبي للكره السعودية، وكانت أفواج الطلاب حين الخروج من المدارس تمثّل لوحة ذكريات آخاذه لجيل الثمانينات، حيث ينتشر الطلاب في شوارع الحي ويتجمهرون جماعات وفرادى عند بائع "الفصفص" أو "إيسكريم النجاح" ولهم في يوم الأربعاء حكايات مع الكره وجلسات الشوي وحضور المباريات، كما كان لهم في موسم الشتاء أحاديث سمر لا تنتهي بنهاية "المكشات" الذي إن طالت به المسافة وابتعد فهو في أقرب "برحة" عند نهاية الحي في شارع خريص. أما ليالي رمضان في حي الملز فهي رواية يحكيها الأدباء وملحمة يصيغها الشعراء، أفراحها كأنها أعراس وأيامها كأنها أعياد، لا يبالغ الأديب إن وصفها بالليالي الأندلسية في الزاهرة والزهراء وقرطبة وغرناطة، فقد كانت لياليه بين صلوات القنوت والنشاط التجاري دار دنيا وآخره، بل لا يكاد وصفها يخرج عما قاله المؤرخون عن (بغداد الرشيد) بأنها من محاسن الدنيا وحلاوة ربيع العمر. شارع المتنبي كان شارع المتنبي في الثمانينات يمثّل حاضراً مشرقاً لتلك المرحلة فمحلات بيع العطور و"الاكسسورات" والفساتين الجاهزة وأقمشة الحرير والتفتتة و"الأورقنزا" و"الدانتيل" تبدو على واجهة المحال كأنها زهور النرجس في مروج الربيع، ولذا كانت ليالي "المتنبي" تضاهي في أناقتها وجمالها أماسي شارع التحلية في هذا الزمان، بل تميز "المتنبي" بتخصصه بملابس النساء الثمينة وهو بحيويته وحركته التجارية رجح كفة حي الملز في منافسته الطويلة مع حي العليا الذي كان يزهو بشارع "الثلاثين" "الأمير سلطان حالياً" مقابل شارع المتنبي الذي بز نظيريه "الأربعين" و"جرير" حتى كان أحدوثه نساء ذلك الزمان. شباب الثمانينات كانت حافلات الأندية تشق عباب شارع الجامعة وسط هدير الجماهير متجهة صوب ملعب رعاية الشباب "فيصل بن فهد" حالياً في حين كانت "برحة الملز" مجمعا لعشاق الكرة وجلسات السمر، فيها يستعرض الشباب سياراتهم الفارهة وتقليعاتهم المجنونة، ومن خلال جولة بين أرصفتها ستقف على الجديد في عالم السيارات و"إكسسواراتها" فمن (B 180) إلى (L 240) إلى (SEL 500) ولا عجب أن تفرد "البيكب" بالجراكل والتغبير والجنوط الخليجية بإعجاب شباب ذلك الزمان الذين اعتادوا أن يرموا أطرف أشمغتهم على هامات رؤوسهم التي "سكبوا" فوقها العقال العريض، ولا تسأل عنهم وهم يرددون:(من لم يقتنِ سيارة L240 فقد فاته قطار الشباب). وإذا أردت أن تعرف سكان حي الملز قبل أكثر من ثلاثين عاماً فما عليك إلاّ أن تزوره بعد الساعة العاشرة مساءً، فهناك ستجد أناساً يصطحبون أبناءهم ويشيرون لهم على هذا المبنى وتلك الحديقة ويقصون لأطفالهم مغامرات ربيع العمر، وهم يتجولون في شارع الستين بين "أبو مخروق" و"حديقة السندباد"، وحينها لا تسأل عن حماس الآباء وضحكات الأولاد وعليه فقد سبقوا غيرهم في إعداد صفحة تعنى وتهتم بتاريخ الملز على "الفيس بوك". وقد تزامنت بداية الثمانيات مع مرحلة الطفرة الاقتصادية والديموغرافية التي شهدتها المملكة بعد أن ساهم البنك العقاري في زيادة السعة الأفقية لمدينة الرياض، حيث توسع حي الملز في قُطر اعتباري شمل كل من حي الزهراء والفاروق والضباط وجرير ومشرفة، حتى إن بعض سكان حي الملز الذين نزلوه مع بداية السبعينات ما يزالون متمسكين به، لاسيما أولئك الذين رمموا منازلهم بأحدث الفنون المعمارية الحديثة، وهذا مشاهد ملموس في أرجاء هذا الحي العتيق رغم غلبة العمالة والشركات المستأجرة على بعض أحيائه ومنازله، إلاّ أنه لا يخلو من بعض أولئك الذين سكنوه قبل خمسة وثلاثين عاماً ، ويذكر أحدهم أن والده رفض الخروج من منزله رغم تهيئة المسكن المناسب له من قبل أبنائه، إلاّ أنه رفض وطلب منهم هدم منزله وإعادة بنائه من جديد، وفعلاً تم بناء منزل والدهم الذي يقع على ثلاثة شوارع بشكل هندسي جذاب إلاّ أن المنية لحقت بوالدهم في الوقت الذي سلم فيه المقاول الأبناء مفتاح منزلهم الجديد في بنائه العتيق. نادي الفروسية في الملز قبل انتقاله قبل سنوات إلى مقره الجديد في الجنادرية جانب من مصنع مشروب «كندا دراي» ملعب الصايغ واجهة الحضور الجماهيري في الحي