مضارب الضيوف أو نُزل الزوار مصطلحات عفا عليها الزمان وغابت بواقعها عن دائرة الأيام، حين كان إعداد نزل الضيافة لزمة من لوازم أحياء العرب، بل طبعاً من طباعهم وسجية من سجاياهم ومكرمة من بحر مكارمهم التي تغنوا بها في خطبهم، وأشعارهم في الحل والترحال، حيث كان العربي يفد إلى محله الرفيع فيما يُعرف مجازاً ب"مضارب الضيوف"، وهي خيامٌ وبيوت من الشعر، أو غُرف من الطين و"الِلبن" تنصب وتُبنى لاستقبال الضيوف الوافدين وعابري الطرق ممن ينزلون بأحياء العرب الذين لم يعرفوا حينها الأجرة، أو الكروة، أو أن يتاجروا بإنزال الضيف وإسكان الغريب؛ لأن هذا يتعارض مع عاداتهم ومكارم أخلاقهم التي فُطروا عليها. كرم الوفادة عرف العرب من بين شعوب الأرض بكثرة تنقلهم وترحالهم، بل عرفت القبائل العربية منذ قديم الزمان أنها قبائل طوّافة تجوب البلاد وتعيش حياة التنقل والسفر، حتى كانت الرسوم والأطلال التي تسفها الرياح ويسكنها الخراب في عُرف الشاعر العربي ملهمة من ملهمات الشعر، وحديث من أحاديث الوجدان والمشاعر، وكان العربي الذي يقطع المسافات ويشق الأرض طولاً وعرضاً يُستقبل في كل حي ينزل إليه ويحط به رحله بما عُرف عن أحياء العرب من حسن الوفادة وكرم الضيافة، حتى كان الأقدمون يتوارثون "مواجيب" الكرم والمروءة في إكرام الضيف، وتلقى المسافرين وعابري الطرق، فتعد لهم الخيام ولوازم الطعام من الأدم واللحم والحليب والماء البارد، كما كانت العرب ترسل كلابها لتخبرهم بمرور الغرباء ليتسابق القوم على ضيافتهم في مضاربهم أو في المضرب المعد من قبل أبناء الحي أو القبيلة لاستقبال الضيوف وأبناء السبيل. أقدم فنادق الرياض «صحارى» و«اليمامة» و«زهرة الشرق» استقبلت كبار الضيوف وأحلى جلسات «البهو» ولم يقتصر ذلك على عرب الأرياف والبوادي، بل عُرف أيضاً بين سكان المدن والحواضر؛ إذ يستقبل الضيف بالكرم والترحاب، وينزل في أوسع الدور والبساتين، ويخدمه أهل الدار ويقفون على راحته، كما كانت بعض الحواضر تعد لمثل هذه المناسبات -لاسيما في حال نزول الوفود والقوافل- دوراً خاصة تجهز لاستقبال ضيوفها على مدار الساعة، وهي وإن تعددت أسماؤها، إلاّ أن أهدافها وغرض إقامتها ظل محدداً لاستقبال الضيوف والوافدين. وما أن أشرقت أنوار الإسلام إلاّ وبدت صور التكافل الاجتماعي تظهر جلية من بين جملة التعاليم والآداب الإسلامية، حيث حث، بل أمر الإسلام بالمحافظة عليها والعمل بها، وكان نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين الهجرة في منزل أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- ومؤاخاته عليه الصلاة والسلام بين المهاجرين والأنصار إقراراً وتشريفاً لمكارم الأخلاق التي كان عليها العرب. نُزل على طريق الحاج ومع التحضر وازدياد الحركة التجارية في جزيرة العرب بدأت العامة والخاصة من السكان والتجار في الحواضر والمدن تقيم ما يعرف آنذاك بالنزل أو الفندق بلغة حمير، الذي ينزله المسافر مقابل أجرة يدفعها لصاحب النزل ثمن ما قدم له من خدمة الإسكان والإيواء، وبحسب الخدمة يكون الأجر، ففي حال توفرت السرر والمفارش والمرافق الخدمية كالحسو "دورات المياه"، والمطبخ فسوف تكون الأجرة أعلى وبقدر نقصها ينقص الأجر، وكان طريق الحاج في شمال ووسط وغرب الجزيرة العربية سبباً في رواج مثل هذه الأفكار التجارية رغم أن كثيراً منها كانت توضع كوقف وصدقة جارية للحجاج والمسافرين وعابري الطرق. وكان حجاج المشرق يسمون النزل "خان" أي المحلة أو المكان هو مصطلح منغولي وفد من حجاج وسط آسيا، وكان هؤلاء الحجاج يتواعدون فيها ويتوافدون عليها؛ فيقال الملتقى في يوم كذا وكذا في الخان الفلاني ويعرفونه باسمه. وقد ذكر الباحث والمؤرخ خالد السليمان في "معجم مدينة الرياض" أنه كان هنالك حي من أحياء الرياض قديماً يعرف بالخان أو شارع الخاني، وهو عائد بتسميته إلى مكان يطلقه عليه حجاج المشرق من وسط آسيا وبلاد ما وراء النهر، وقد اندثر مسماه وبقي الحي ضمن أحياء وسط الرياض القديمة، كما عرف وقف المرأة الصالحة جليلة زوجة الوجيه عبد المحسن الحنفي في القرن الحادي عشر الهجري بخان جليلة وهو حي "خنشليلة" الحالي. img src="http://s.alriyadh.com/2012/05/10/img/248058409639.jpg" title=" "كراجات" الرياض القديمة حيث تستقبل وتودع المسافرين" "كراجات" الرياض القديمة حيث تستقبل وتودع المسافرين فنادق السبعينيات ومع توحيد المملكة واهتمام المؤسس -رحمه الله- بإعمار البلاد بدأت دور الضيافة ومنازل استقبال الضيوف في العاصمة أكثر وضوحاً، حيث بدأت المدينة تستقبل أبناء الوطن من كافة مدن ومناطق المملكة بحثاً عن فرص العمل ومنافع التجارة؛ مما زاد من ارتفاع الطلب على الدور وغرف الإسكان، حتى بدأت الشركات الكبرى تسعى لبناء فنادق خاصة في مدينة الرياض والتي كانت باكورتها "فندق اليمامة" و"زهرة الشرق" -الذي يملكه الشيخ محمد بن لادن-، واستقبلا كبار ضيوف الدولة، وأحلى جلسات "البهو" بين جيلٍ على أعتاب "الترف"، والسهر، والتحديث، وقبلها كان هنالك وفد من تجار الكويت جاءوا إلى الرياض في بداية السبعينيات الهجرية لإقامة مثل هذا المشروع الفندقي، إلاّ أنهم صرفوا النظر عنه حين رأوا الأرض المعروضة -التي وفدوا لإقامة مشروعهم عليها- بعيدة عن المدينة وفي أرض مقفرة لا يسكنها إلاّ الكائنات الموحشة، وهي الآن تتوسط طريق الملك عبدالعزيز "طريق المطار القديم". كان فندق "صحارى" من أوائل فنادق الرياض وقد ارتبط بمطار الملك عبدالعزيز الذي شيد في بداية السبعينات الهجرية، وكذا كان البرج الأسطواني المسمى "بناية العرب" في تقاطع طريق الجامعة مع طريق الملك عبدالعزيز يعد من أقدم الفنادق والمباني القائمة في مدينة الرياض لولا أنه أزيل قبل عامين وبقي أثراً بعد عين، بعدها بدأت فنادق الرياض تنتشر في حي البطحاء بصورة جلية، كما زاد عددها أمام الوزارات والدوائر الحكومية حتى بدا "شارع المطار القديم" يجمع الوزارات من الناحية الغربية والتي أنشأت في عام 1377ه، والفنادق من الناحية الشرقية وهي لا تزال قائمة إلى الآن تستقبل عملاءها وزبائنها وكأنها تختزل عمرها الذي قارب الستين عاماً منذ أن أنشئت في أواسط السبعينيات الهجرية. img src="http://s.alriyadh.com/2012/05/10/img/653992606908.jpg" title=" لقطة نادرة ل"سوق مقيبرة" في دخنة قبل أكثر من ستين عاماً حيث يفد إليه الأهالي للتبضع ثم السكن عند أهاليهم" لقطة نادرة ل"سوق مقيبرة" في دخنة قبل أكثر من ستين عاماً حيث يفد إليه الأهالي للتبضع ثم السكن عند أهاليهم فنادق خمس نجوم الرياض الحديثة تبدلت وتوسعت وبدت لزوارها بفنادقها الحالية التي تحمل أسماء كبريات الشركات العالمية؛ كغيرها من مدن المال والأعمال تستقبل نزلاءها ب ال "فايف ستار"، وأدوار رجال الأعمال وأجنحة ال"VIP"، كما تسابقت مع كبريات الفنادق مبانٍ وعمائر الشقق المفروشة والشقق الفندقية التي ملأت سماء الرياض، وتوزعت في أحيائها الحديثة والقديمة حتى بدت للزائر الغريب مقر سفره ومحط نظره، بها ينزل المسافر وفي أجنحتها يحل الغريب وبقدر ما يقدمه النزيل من الأجر يكون المكان وتكون الخدمة. وهو ما يبدو اليوم واضحاً وجلياً، حيث وجد المسافر في الفنادق والشقق المفروشة ما لم يجده المسافر القديم في النزل الذي شيد من الطين وافتقد لأقل درجات الراحة والرفاهية التي ينشدها أبن السبيل وعابر الطريق، في حين بدت الفنادق العالمية في بلادنا وفي كافة بلاد المعمورة تشهد نقلات نوعية في أساليب الضيافة واستقبال العملاء وتحقيق أعلى درجة من الرفاهية والاستجمام الذي يوفر لهم الخدمات المميزة على مدار الساعة، إلاّ أنها ما كانت ستقدمها مجاناً من باب كرم الوفادة كما كان العرب قديماً يتسابقون على "مضارب الضيوف" وخدمة المسافرين وأبناء السبيل. «البرستيج» و«مابي أضيق على أحد» أو«التزم معه» أو «يدري إني جاي» زادت نسبة الإشغال حديثاً التنفيس العائلي وعلى الرغم من تعدد الفنادق والشقق المفروشة اليوم، وتنوع مظاهرها، ومستوى تصنيفها، وخدماتها، إلاّ أنها تحولت بفعل "البرستيج"، و"الحاجة"، و"مابي أضيق على أحد"، أو "التزم معه"، أو "يدري إني جاي" مقصداً لوجهة الكثيرين، بل ربما الجميع، ومصدر دخل يُعتمد عليه التجار. جيل اليوم لم يعد كما كان في السابق يقصد منزل أخيه، أو أحد أفراد أسرته ليبيت عنده، ويقضي أيامه معه إلى أن يعود إلى قريته أو هجرته، بل أضحى الواقع مختلفاً؛ وقبل ما يحضر الأخ يحجز شقته، أو فندقه، ثم "يسيّر" على أخوه أو قريبه، ولا يلتزم معه، بل يذهب في قضاء حاجته، ويتنزه في المدينة. قد يرى البعض ذلك خياراً أفضل، وأسهل، لكنه يفسّر أحياناً ما في النفس من تغيير، وتأثير، وربما أكثر من ذلك تنفيساً عن الالتزام العائلي الذي لم يعد يحتمله أحد بصورة المبالغة، وحب المظاهر. فندق زهرة الشرق في بداية التسعينيات هجرية فنادق اليوم تضم مولات ضخمة ومقاهي ومطاعم وترفيهاً في مكان واحد واجهة فندق الريتز كارلتون بمدينة الرياض السكن في ضيافة الأهل تبدو أفضل من الفنادق.. وجلسة «المشراق» أجمل