ما كنت أقصد وإن فهمه بعض الإخوان أن أدع التراث جانبا، وأسعى بلا ماض في هذه الحياة، فالماضي جزء غير هين تناسيه، والصد عنه؛ لكني كنت أُلمح إلى أنّ التراث المبتعث والموقظ من تحت الأنقاض هو تراث مذهبي، تداعينا إليه، فعادت كل طائفة إلى تراثها الخاص، ونشبت بعد ذلك معارك وما فتئت حول الأسدّ والأصوب، وصار جزء لا يستهان به من جهودنا مصروفا إلى تدعيم صورة ذلك التراث الخاص، وتقديمه على أنه ممثل الإسلام، عدنا إليه ليُعيننا فشغلنا في مصاولة الآخرين، هكذا أضحى للإسلام تراثات عديدة، تُقدّم على أنها هو، ولم يرض المنتمون إليها أن يُزاحمهم غيرهم في تقديم تلك الصورة عن الإسلام، فصار من أهداف كل جماعة أن تزرع صورة واضحة من تراثها في أذهان أجيالها! فصرنا من هدف المواجهة الخارجية إلى هدف المواجهة الداخلية! صرنا من رعاية هوية الأمة بعمومها إلى رعاية هوية أفراد كل مذهبية، وعلى هذا خسرنا معركتنا التي قمنا لها، وصرنا كمن يبتغي جمع الأمة على مذهبه الخاص أولا، ومثل ذا هدف تقف في وجهه الحياة في الماضي والحاضر، فهل في طاقة جيل أن يفعله؟ كنا وكان غيرنا نحرص على التراث تحقيقه ونشره، والاطلاع عليه، والاقتداء برجاله، كنا نقول: التراث والتراث، نستعمله ب"أل" الجنسية، نرمي من ذلك في الظاهر إلى الاهتمام بكل تراث إسلامي؛ لكننا فوجئنا حين العمل أن ثمة شروطا كثيرة وأوصافا غفيرة في ذلك التراث، مما جعلنا ندرك أخيرا أن "أل" فيه أضحت عهدية، تومئ إلى تراث معهود، هو التراث المذهبي فقط، وربما كان تراث عالم من العلماء، تمّ اختياره ليكون ممثلا ولا إخاله مستطيعا لتراث رحب الفناء، بعيد الأغوار. كنت أرمي من وراء المقالة "امربع ديرتين ممحل" التي ختمت بها مقالا سابقا أن أقول: إنّ تربيع التراث والانكباب عليه كان وفق أسس مذهبية صراعية! جعلتنا نرتد إلى التراث حسب شروطها، وليس حسب شروط الحياة اليوم، فانطوت عملية الرجوع إلى التراث على تصنيفه، وبهذا نقلنا رحى صراع الطوائف والأطياف اليوم إلى التراث نفسه، فلم نزدد بالرجوع سعة أفق تمنحنا النظر إلى صراع اليوم، إننا أدلجنا الماضي بالحاضر وما فيه!، فصارت الصورة واحدة، والإطار متحدا، فما قيمة العودة إلى التراث حينئذ؟ ليس الرجوع إلى التراث عيبا في نفسه؛ لكن العودة إليه بروح مذهبية، لا تؤمن بغير ما تراه، هو المشكل، إننا اليوم نعيش مرحلة جديدة أو بداياتها حيث الإيمان بالتنوع بدأ يُغطي سماء ثقافتنا، تنوع كانت بدايته في الحوار بين أطياف الداخل، ونهايته في حوار أمم أخرى وأديانها، إنّ هذا التنوع أقل ما يعنينا منه حين العودة إلى التراث أن ننظر إلى تراثنا المخالف لنا والموافق كما ننظر اليوم إلى ثقافات هذه الأمم وأديانها، نقبلها ونتحاور معها، نتعرّف عليها وتتعرّف علينا، نقرأ ما تقول وتقرأ ما نقول، فلسنا نضع موقف الرفض في مقدمة خياراتنا؛ لأننا نسعى للتكاشف فقط{لكم دينكم ولي دين، وليس من همنا أن نتصارع بالرأي حتى نقنعهم أويقنعونا، بمثل ذا يحسن بنا أن ننظر إلى تراثنا ونتعامل معه، وحينئذ تثمر العودة، وتشارك في توسيع آفاق الذهن وآماده، وإن لم نفعل ذلك مع تراثنا، إن لم ننفتح عليه اليوم كما انفتحنا أو أزمعنا الانفتاح على غيرنا، فالحال كما قال شوقي: حرام على بلابله الدوح ... حلال للطير من كل جنس إنّ التنوع روح التراث، بل روح تأريخ الإنسان، لم يتفق الناس على قضية فكرية كاتفاقهم على التنوع، إنها الخصلة التي لم يستطع الإنسان مع سعيه وتفانيه أن ينفيها، إنها الصفة المتجذرة التي لا يدل تأريخ الناس على شيء آخر سواها، إنها السبب وراء إضافات الأمم والجماعات والأفراد، بالتنوع عُرفت الفروقات، ومُيّزت الثقافات، وتفاضلت الجماعات والأفراد، إنه التنوع روح الحياة، وصفة الإنسان بما هو إنسان. إنّ التنوع هو الذي يضمن لنا التجدد، ويأخذ بأيدينا إلى الأفضل، فلولاه لكانت الحياة كالبركة الراكدة، لولا التنوع لما فرح بعضنا بهذه المنظومات المذهبية التي ينزوي تحتها المسلمون اليوم، ويتصارعون من أجلها، هي لم تكن لولا أنّ في الناس من يخالفها، إن التنوع هو الذي صنع لنا هذا التراث الذي اقتصرنا على جزء منه، إن التنوع بين الناس كان سبب التدافع الثقافي، ولولا هذا التدافع ما كنا رأينا ولا سمعنا بهذا التراث الذي نفاخر به تارة، ونتجادل به أخرى. إنّ التنوع أصل، تدور عليه حياة الإنسان، يدركه ويبحث عنه، تجده يسأل من حوله عن قرار يريد أن يتخذه، قرار في قضية مادية أوفكرية، قرار في مسألة اجتماعية أو اقتصادية، إن الإنسان لولا ما يجده من ضرورة الاختلاف والتنوع بين الناس لما سعى إلى مباحثتهم ومجالستهم في ما يروم القيام به، والنهوض له، إنه قد أدرك أنّ ما سيسمعه وإن خالف ما يظنه صوابا سيجعل حاله أحسن، واختياره أصوب، لقد وعى الإنسان أن أيسر السبل إلى أكبر قدر من الحكمة هو أن يشارك الناس في رأيه، وهذه الحكمة (البحث عن التنوع) راسخة في الذهن البشري، بتلقائية عجيبة يسأل الإنسان من يثق به عما يعتزم القيام، إن ذا التصرف الإنساني التلقائي يدل بوضوح أن منطق الحياة قائم على التنوع، وأنّ حكمة المرء تُقاس باستغلاله واللجوء إليه، في شأنه الصغير والكبير، في مخطط بيته الذي يريد أن يسكنه، وفي مشروعه التجاري الذي يريد أن يزيد به دخله، إنها حكمة مخبوءة في الإنسان، كفل الله تعالى بها له أرشد النجدين، حكمة تعيش في المرء قديما وحديثا، ويعمد إليها المتعلم وغيره،إن مثل هذه المبادئ الإنسانية المشتركة بين الناس هي التي يحسن بنا أن نهتم بها، ونتكئ عليها في استنهاض الأذهان، والسعي في تغييرها، فهي القضايا البدهية، التي يعسر على الإنسان الصدود عنها، إنها إن استقرت كانت الأبواب مفتوحة، والنوافذ إلى التغيير مشرعة. إن التراث الذي نعود إليه اليوم فيه مناهج ومواد، وأس ذلك كله التنوع، فبه تدافعت المناهج، وتكاثرت المواد والمسائل، فالتنوع إن لم يكن أبا للتراث فهو جزء منه، فليكن من عودتنا إلى التراث الرجوع إليه، فهو الأرضية التي نشأ عليه التراث، وهو الماء الذي سقى جذوره، الماء الذي جفت عروق التراث حين فقده، إن التمانع من التنوع هو المؤامرة الكبرى في بلادنا اليوم، وليس ما يسعى إليه الغرب في حقنا، إننا نحن الذين أوقفنا تنامي المعرفة والفكر بمحاربتنا للتنوع، فبقينا حيث كنا، ولم يكن في مقدور قوم أن يُجاروا غيرهم من الأمم، وهم يقفون في سبيل التنوع في بيئاتهم، ويترصدون لكل أخ حسن النية والقصد، لقد أضحى التراث بمفهومه الضيق قمقما، حُشر الناس فيه، فلم يستطيعوا فيه التحرك. إننا نقول حين يقع بيننا جدل في المواقف من الآخرين وآرائهم: على المرء أن ينظر في أقوال الناس بنفسه، ولا يعتد بناقل، عليه أن يعرف ثقافة اليوم وينظر إلى ما تقوله تياراتها جميعا، ولا يكتفي بفريق، ويزورّ عن آخر، ومثل هذا المبدأ الذائع قولا يصدق تماما على التنوع الموجود في التراث، فكيف تأخذ رأيا في مخالفك ممن تدرك وإن ملت إلى رأيه أنه يخالفه؟ كيف تكتفي بالردود على من يخالف مذهبك، ولا تفكر أن تنظر في أقواله بنفسك؟ كيف وأنت من يدعو إلى التحري تنجذب إلى مذهبيتك، ولا تفكر في ما تطرحه عليك؟ أتريد من غيرك أن يسمع ما تقوله، ولا ترضى أن تسمع أنت إلى غير معلمك؟! وأخيرا فإني أميل إلى القول بأنّ من يضع السدود قاصدا أن يحول بها بين الناس وبين التأثر بالمخالفين، ويركب كل سبيل في عزوفه عنهم، أميل إلى القول بأنه ممن لا يؤمن بهذه الروح التي كانت عباءة خرج منها التراث، وتهادت بسببها الأمة؛ لكنني أؤمن بها، وأقول ولعلي غير بعيد : إن إيماني بالتنوع يفوق إيماني بمذهبيتي؛ إذ هو صانعها ومُنتِجها، ولولاه ما كان الذي كان، ولولاه ما كان في النفس ما فيها من رضا عن هذه المذهبية، إن ما رضيته كان نتاج الصراع الذي كانت أرضه التنوع، وسماؤه النص، النص الذي لم تكن الهوامش عليه إلا بفضل التنوع والقبول به، فلننفتح على تراثنا حقا، إن كنا نريد أن نُشابه الأسلاف، وإن كنا نريد أن يصدق قولنا: الرجوع إلى التراث ضرورة.