إن وحدتنا لن يتم تأسيسها، ومعالجة عوائقها دون أن نؤمن بالفصل الواضح بين الإسلام وتأريخنا! فنحن أمة لم تفرق بين الدين المقدس، وفعل الإنسان في التأريخ، وكل من يدعو إلى الفصل فهو يدرك صعوبته على أمة تحوّل ماضيها إلى رمز خالد مقدس في مأثورنا السائر مسير المثل قولنا: كل خير في اتباع من سلف! والمذهبيات التي نتقاتل حولها اليوم، وتقاتل حولها الماضون منا، وأصبح دوراننا حولها سبباً من أسباب فرقتنا، جزء من اتباع من سلف، فهل نظل تحت تخدير مثل هذه المقولات، ونحن نرى أهم علل فرقتنا من ماضينا؟ أنظل نجوس وراء إنسان هذا العصر، وما باغتنا به من جديد، وخلف أمم هذا الزمان، ونذر هذا الماضي الذي نعدّه، مع اختلافنا في توصيفه، مِن أهم ركائزنا، وأعز مقوماتنا؟ الفرقة في المسلمين ليست تحديا معاصرا، تتوقف دراستنا له، والتأمل فيه، على ما نعيشه اليوم، الفرقة تأريخها مديد، وعمرها معنا طويل، وهذه - أيها السادة - أحد التحديات الكبرى فيها؛ لأننا تعوّدنا على تمجيد الماضي ورجاله، وتقديس آثاره؛ حتى صار كل خير فيه، وكل شر في أخلافه! من الصعب على أمة تحوَّل ماضيها إلى مقدس أن تجعله حاضناً لبعض مشكلاتها، وراعياً لها، وأضحى من العسير أن يتكلم فيه أحد، أو يُشير بإصبعه إليه؛ لكننا نعلم أنّ من يفكر جادا في إصلاح حاله يلزمه أولا أن يفتح الباب على مصراعيه للنقد، فلا يذر شيئا، ويصطفي آخر، ويظن بعد ذلك قدرته على الوقوف على ما عاقه، والإمساك بما أخّره، ومَنْ في طبعه تقديس ماض أو حاضر فعليه أن يدعَ البحث في معوّقاته، ويجعل أمره، وأمر مجتمعه، إلى الرياح فحيثما ذهبت أخذت به. الماضي وما فيه كالنهر الزاخر، الذي تندفع مياهه، وتتسارع وتيرة تياراته، والحاضر لحظة عابرة، عما قليل تتصرم، فإنسان الحاضر شبيه بالسمكة التي تحاول أن تسير خلاف اندفاع المياه، وضد حركة التيارات، فإن لم تجهد في المدافعة فسيضطرها التيار لمسايرته، وتُرغمها المياه على الاستسلام لها، وذلكم هو الإنسان حين يقف أمام ماضيه، ويسعى في دراسة ما فيه، فماضي كل جماعة سر لا يكشف، وإن كانت تحرص على ماضي الآخرين أن تُعرّيه، وتُبديه. عشق الماضي، والحنين إليه، والتغني بما كان فيه، خلّة بشرية تقريباً، وهي راجعة في غالب الأمر إلى أنّ الإنسان لم يعش ذلكم الماضي، ولم يتقلّب في مشكلاته، وتحدياته، فبقي الماضي ذكرى فقط، وبين الذكريات عن الشيء والشيء فرق كبير؛ خاصة إذا تولّى تشكيل صورة الماضي محبون عاشقون مغرمون، لن يضعوا في لوحته إلا كل جميل طريف، ينشر في النفس محبة استعادته وهمّ إرجاعه، مهما كلّفها الثمن، وحينئذ يتحول الماضي من تأريخ مملوء بالجميل وغيره إلى رمز يُختزل الجميل فيه، ويُقصر عليه، فلا يكون الماضي كما هو، وإنما تُصنع صورته حسب هوى الراسم، وميول الفنان التشكيلي، وبهذا يتحول الماضي إلى رمز طهر وأمارة نقاء، فيصبح الماضي بتصوره التشكيلي جزءا من مشكلة الإنسان، وليس عونا له على حل تحدياته، ومواجهة حاضره. لقد تحوّل الماضي على أيدينا إلى رمز، لا يجوز المساس به، ولا الالتفات بالنقد إليه، فتغيرت حاله معنا، كنا نعدّه مخزناً، نأخذ منه، ونجول فيه، فصار بترميزه خطرا من المخاطر الكبرى علينا؛ لأنه حوّلنا من باحثين فيه، وفي غيره إلى محامين عنه، باذلين جهد العقول في إخراجه مما نحن فيه، وتبرئته مما آلت بنا الأحوال إليه، ولم يبق لنا - مع اختلافنا في الماضي الذي ننتمي إليه - إلا الحاضر، وما فيه، فصرنا نتهم أنفسنا تارة، ونتهم الآخرين تارات أُخَر، ونجعل مآل ما نحن فيه إليهما، ونقصر التحدي عليهما، ولم نستطع؛ لقداسة الماضي في عيوننا، أن نجعله فرضاً من فروض ما نعيشه اليوم من مأساة الفرقة، ومعضلة الشتات. حين يدور الحديث عن الوحدة اليوم يُخيّل إلى كثير منا أن الفرقة حدث جديد، وأزمة معاصرة، فيركزون على المشاهد الحالية، ويبحثون عن مصدر هذه الفرقة، وأسبابها، فيشغلهم العصر، وما فيه من صراع واختلاف، وينسون العمق التأريخي لهذه الفرقة والشتات، وهم حين يقعون في ذلكم النسيان - مع معرفتهم بصراع الناس في الماضي - فداعيهم إليه نزاهة الماضي ورجاله، فمن أصعب المواقف على المسلم المذهبي اليوم أن يرى أسلافه، الذين بنى عليهم كل شيء في يديه، أن يراهم وقد أصبحوا جزءا غير يسير من أزمة الفرقة التي يعيشها الآن! وهكذا تقع حركة التصحيح، التي يُراد لها أن تصلح الحال، وتتفقد السبيل، وتكتشف الخلل، في مطب الأشخاص، وتقف أمام أسوارهم، وحينها يُؤثر الإنسان لعصبيته نقاء رجال ماضيه على إصلاح حاضره، وإعادة النظر فيه، فيُعيد على مسامعنا جميعا قول الله - تعالى - في غيره:(إنّا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مهتدون). يعود التقليد من جديد، يعود التقليد كسلاح من أسلحة المحاماة عن الماضي ورجاله، وكأن الماضي ومن فيه لا يستحقون التقدير، وينالون الاحترام إلا حين يكونون ملائكة أو معصومين عن الخطأ! يعود التقليد من جديد؛ ليكون من أخطر أسباب الفرقة والشتات، يعود التقليد هنا ليس في قضية جزئية عابرة، وإنما في مسألة كلية! هي المدافعة عن الماضي وتراثه، بكل ما فيه، وهكذا يتحول الماضي إلى مقدس، وحينها تختلط على الناس الأوراق، فكلٌّ يريد أن يجعل ماضيه هو المقدس، الذي لا يُمس، وعلى الآخرين أن يُجروا على ماضيهم وحاضرهم التعديل، الذي يكفل للوحدة أن تعود، وللفرقة أن تنأى! هذه هي حالنا اليوم يحضر الماضي، فيغيب الإسلام، وتحضر المذهبية، فتغيب الأمة. لم يعد من العدل أن ننسب كل خير إلى ماضينا، فنقع في مشكلة التداخل بين التأريخ والدين، وإذا كنا قد قَبِلنا أن نرجع إلى مذهبياتنا التأريخية بالنقد والفحص؛ لأنها فرض من الفروض، وعلاقتها بالإسلام كعلاقة التأريخ به، فعلينا البدء بعد ذلك بالنظر إلى التأريخ نفسه، الذي ملأته هذه المذهبيات ضجيجا وفرقة، فهو مُعَبِّر عنها أكثر من تعبيره عن الإسلام، فقد غلبت المذهبية الإسلام في التأريخ، فهل نثأر للإسلام والأمة بمراجعة التأريخ أو نظل مغرمين بالتأريخ وما فيه من أسباب الفرقة، على حساب دين جاء؛ ليوحد الكلمة، ويجمع الأمة؟! للإنسان بعدان؛ بعدٌ تاريخي، وبعد حاضر، وليس من العدل أن نصوّب أنظارنا حين كشف المشكلات، ودراسة أسبابها، وفحص عللها، إلى بعدنا الحاضر، ونذر بُعدنا الماضي، ونُبَرئه مما يتلبسنا من التحديات، ويعوق حركتنا من المشكلات، وليس من الإنصاف أن نذر الماضي حين نزمع إصلاح ما نحن فيه، فثمّ ارتباط بين الشيء وماضيه، ارتباط هو أشبه ما يكون بالمورثات الموجودة في الأبناء من الآباء، فما في قدرتك أن تصلح حال أمر الآن، دون أن ترجع إلى ماضيه وتأريخه؛ إذ فيهما عمقه وجذوره، ومن نافلة القول أنْ ليس القصد من هذا الرجوع أن يُدان الماضي، ويُبخس رجاله حقهم؛ لكن القصد أنْ يصحو الحاضر، ويعرف دور ماضيه في أزمته، ويُصحح أخطاءه. إنّ الفصل بين الدين والحياة يُسمى اليوم علمانية، ويُحارب أيما محاربة؛ لكن أصحاب هذه الحرب يغفلون عن أنّ التزاوج بين الدين والحياة في الماضي يعني أنها جرت وانقضت وفق الدين ومبادئه ومثله، ومؤدى هذا أن تصبح الحياة السالفة - باختلافاتها العظيمة ومنها علاقة المسلم بالمسلم - والدين شيئا واحدا، فيكون من الصعب نقدها، وتصحيح ما فيها، ويتم الخلط بين التأريخ والدين، وبين حياة الناس ودينهم. هذا الفصل سيدفعنا إلى قراءة الماضي قراءة واعية، غير متوجسة، فالربط بين التأريخ والإسلام من أهم أسباب تقديسه، وتنزيه رجاله، ومتى ما تمّ لنا الفصل ذهبت عنه النزاهة، وأضحى تأريخا للإنسان المسلم وحده، يحمل خطأه، وينطوي على حسناته، يُشجعنا على ذلك، ويُحرضنا عليه أننا مختلفون في هذا الماضي وتصوره اختلافا غير يسير، اختلافا يمنعنا منهجيا أن نجعله جميعا جزءا من الدين، وظلا له، وهكذا يظل الدين متعاليا على الماضي، وما فيه، ويصبح التأريخ للمسلمين، لا الإسلام. من طريف أمر هذا الفصل، الذي يرفع القداسة عن التأريخ، ويُخلص الدين من شوائبه، أنه يقوم على فكرة العلمانية التي نحاربها جملة وتفصيلا، فالتأريخ هو الحياة في الماضي، وحين نطالب برفع الدين عنها - لنقدها - تكون حينئذ تجردت منه، ولم يعد جزءا منها، أريد بذلك أن الفصل لا يتم إلا وفق الإيمان بفك الارتباط بين الحياة القديمة والدين! ومع رفض كل طائفة فصل فهمها عن الدين إلا أنّ هذه خطوة ضرورية؛ لتعقب أخطاء الماضي، وتتبع خروج رجاله عن متن النص، وروح الدين، وهذا يُرينا أن فكرة العلمانية ليست فقط فكرة تُطبق، وإنما هي طريقة منهجية يُسبر بها الواقع، وتُتخذ في تحليله، فنفصل بها بين ديننا وماضينا، وبين ديننا وأسلافنا! وإن لم نفعل فسنبقى حيارى أمام تعارض ثقيل الظل بين ديننا وتأريخنا، وبين ديننا ومذهبياتنا! الفصل بين الإسلام والتأريخ سيجرد المذهبي من عمقه التأريخي، الذي يستند إليه، ويحتمي به، وسيكون ضربة معرفية للتقليد شديدة؛ لأن جزءاً غير قليل من إجلال الماضي ورجالاته راجع إلى التداخل بين الإسلام والتأريخ، فالفصل بين الإسلام والتأريخ هو البوابة الكبرى لمعالجة المذهبيات، وما لم يحدث ذلك، فسندور في حلقة مفرغة، ويُؤتى الحذِر - كما يقال - من مأمنه. إن وحدتنا لن يتم تأسيسها، ومعالجة عوائقها دون أن نؤمن بالفصل الواضح بين الإسلام وتأريخنا! فنحن أمة لم تفرق بين الدين المقدس، وفعل الإنسان في التأريخ، وكل من يدعو إلى الفصل فهو يدرك صعوبته على أمة تحوّل ماضيها إلى رمز خالد مقدس! لكنه يعي تماماً أنّ التداخل في عقولنا بين الدين والتأريخ، ومن فيه، من أهم أسباب هذا الترميز والتقديس، فيبذل جهده في إقناع الناس أن التأريخ يُمثل الإنسانَ وفهمه، لا الإسلام ونصوصه.