تطرب العرب للنسيم العليل المحمّل بالندى لعدة أسباب: أولها انه يلطّف جوّ الصحراء الحار والجاف، ويخفّف قسوة المناخ.. وثانيها أنه يحمل وعداً بالمطر.. فطالما حمل الندى فهو بشير بمطر.. وما أدراك ما المطر عند العربي؟ انه الجمال والمال والحياة.. يقول ابن المعتز: ونسيم يبشِّر الأرض بالقطْر كذيل الغلالة المبلولِ ووجوه البلاد تنتظر الغيث انتظار المحب ردَّ الرسولِ وثالثها أن النسيم الرقيق يثير العشق والغرام، ويُشوِّق إلى لقاء الأحباب.. ورابعها أن النسيم حنان يداعب الوجوه، ويلاعب الشعور، ويفتح القلوب للابتهاج بالحياة، وينشِّط الأعضاء، ويملأ الخلايا والحنايا بالهواءِ الطلق النقي الزكي الرائحة في حفلة رائعة تفتح النفس للحياة.. * ويصور لنا ابن الرومي احتفال الطبيعة بالنسيم الذي يهب مع السحر قبيل طلوع الفجر - وهو أصفى وقت - فإذا الأغصان تتناجى، والطيور تتنادى، والحمام يُغني، والغصن يهز أعطافه، والأرض تتفجر بروائح الريحان: فياحظ من ذعذع على خشمه الهوى، وتنشّق من أوراق الخزامى فنودها (راكان بن حثلين) «حيّتك عنا شمال طاف طائفها بجنةٍ، فجرت روحاً وريحانا هبّت سُحيراً فناجى الغصن صاحبه سراً بها وتنادى الطير إعلانا وُرقٌ تغنى على خضر مُهدّلة تسمو بها وتشم الأرض أحيانا تخالُ طائرها نشوان من طرب والغصنُ من هزِّه عطفيه نشوانا» والصّبا هي صفوة النسيم.. صبا نجد التي قال فيها الشعراء مجلدات، يقول الموصلي: سرت سَحَراً من أرض نجد صبا نجد مضمّخة الأذيال بالشيح والرَّندِ فأهدت إلى الأرواح أيدي شمالها يميناً على راحاتها نفحة الندِّ وهي تثير لواعج العشاق لجمالها: «ألا يا صبا نجدٍ متى هجت من نجدِ لقد زادني مسراك وجداً على وجد» * ولابن زيدون في النسيم المضمخ بالعطر الذي يثير الحب والذكريات (وأرسلها لولاّدة): «إني ذكرتك بالزهراء مشتاقا والأفق طلق ووجه الأرض قد راقا وللنسيم اعتلال في أصائله كأنما رقّ لي فاعتل إشفاقا والروض عن مائه الفضيّ مبتسم كما شققت عن اللَّبات أطواقا نلهو بما يستميل العين من زهرٍ جال الندى فيه حتى مال أعناقا كأنَّ أعينه إذا عاينت أرقي بكت لما بي فجال الدمع رقراقا لو شاء حملي نسيم الصبح - حين سرى - وافاكمُ بفتى أضناه ما لاقى» ويصف ابن الرومي نسيم ليلة جميلة بأريج الخزامى غبّ وسمي ثم هطل عليها (وليّ) وهو المطر الذي يلي الوسمي بعد أن يظهر العشب فيرويه وينشر روائحه الزكية: «كأنَّ نسيمها أرج الخزامى ولاها بعد وسميّ وليُّ هدية شمأل هبَّت بليلٍ لأفنان الغصون بها نجيُّ إذا أنفاسها نسمت سُحيراً تنفس كالشجيِّ لها الخليُُّّ * * * في حرارة الصحراء يكون لهبوب النسيم العليل وقع الماء البارد على كبد الظمآن الذي كاد يقتله الظمأ.. إنه نسيم النعيم. والعرب يحبون هبوب النسيم الرقيق وينتعشون معه ويتغنون به، وسموه عليلاً لشدة رقته، ويقولون في وصفه (نسيم عليل يشفى العليل) فالأولى بمعنى رقيق، والثانية بمعنى مريض، وقد يقولون (... يشفي الغليل) وهو الحرقة والاشتياق لشيء غال مفقود.. والعرب على العموم يحبون هبوب الهواء ويكرهون السكون، وأكثر ما يعشقون النسائم التي تهب وقت الربيع مضمخة بروائح العطر والعبير وأريج الورود والعطور وفوح المسك الفتيق، يقول الفارس المشهور راكان بن حثلين: «فياحظ من ذعذع على خشمه الهوى وتنشق من اوراق الخزامى فنودها ويهّم الصمّان إلى نشف الثرى من الطف والاحادر من نفودها تبري لنا سلفان إلى ناض بارق زهت له وهو نازح من حدودها فلا يوجد أسعد من هذا الجوّ العالمي: يرف نسيم الصمان غب المطر حاملاً ريح الخزامى وقد نشف الثرى وتلبد النفود واقبلت الرعيان للعشب الأخضر وتبسمت مع قدوم برق جديد ونسيم طيِّب غضّ فيه رائحة المطر والعشب والنماء والخصب.. * * * وفي شعر أندلسي، رائع كروعة الفردوس المفقود، رائق كالماء العذب الصافي، وناعم كأنسام السحر، يقول ابن سفر المريني متغزلاً بأرض الأندلس ونسميها تغزل الحبيب بالحبيبة: «في أرض أندلس تلتذ نعماءُ ولا يفارق فيها القلبَ سرَّاءُ أنهارها فضّة والمسك تربتها والخزُّ روضتها والدُّر حصباءُ وللهواءِ بها لطف يرق به من لا يرق، وتبدو منه أهواءُ ليس النسيم الذي يهفو بها سحراً ولا انتثار لآلي الطِّلِّ أنداءُ وإنما أرجُ الندّ استطاب بها في ماء وردٍ فطابت منه أرجاءُ» الله!!.. يا له من شعر هبّ كنسيم نعيم هبَّ من فردوس!