رغم مرور ألف عام بين مقتل أبي فراس الحمداني وميلاد راكان بن حثلين، إلاّ أن هناك صفات مشتركة بين البطلين العربيين. وهي صفات عجيبة في توافرها وترادفها رغم اختلاف المكان وبعد الزمان فقد عاش أبو فراس في (منبج) بقرب (حلب) حيث الطبيعة الرائعة والمياه الجارية، بينما عاش راكان بن حثلين في صحراء العرب (الصمان خصوصاً) حيث يغلب الجدب علي الخصب ويشح المطر ولكن راكان نفسه كان خصيباً.. ومن الصفات العجيبة بين هذين البطلين: 1 - أن كلا منهما فارس مغوار لا يشق له غبار. 2 - وهما شاعران بارزان، أبو فراس في الشعر الفصيح، وراكان في الشعر الشعبي. 3 - كلاهما نبيل وطموح إلى أبعد الحدود ولكن راكان بن حثلين استطاع تحقيق طموحاته القوية فحقق لقبيلته مجداً باقياً كلما ذكر ارتبط باسم راكان بن حثلين الذي تعطرت سيرته في أسفار التاريخ وعلى ألسنة الرواة.. أما أبو فراس الحمداني فرغم طموحه العظيم الذي انعكس في فعله وقوله، إذ كان يريد أن يكون الفارس الأول والشاعر الأول والأمير الأول (الصدر) في كل الأمور كما قال: (ونحن قوم لا توسط بيننا لنا الصدر دون العالمين أو القبر) وقوله: (ومن كان مثلي لم يبت إلا أسيراً أو أميراً) بعد أن أسره الروم. وقوله: (سيذكرني قومي إذا جدّ جدهم وفي الليلة الظلماءِ يفتقد البدرُ) رغم كل طموح أبي فراس الذي هو به جدير وعليه قدير إلاّ أن النساء ولاّدة، وأرض العرب معطاء، فمن سوء حظ أبي فراس أنه عاصر رجلين أقوى منه وأقدر، على قوته وقدرته، وهما (سيف الدولة الحمداني) الذي كان أقدر منه على السياسة وأشد دهاء، و(أبو الطيب المتنبي) أشهر وأكبر شعراء العربية الذي كسف بشعر إبي فراس - معاصره - كما تكسف الشمس بالكواكب، فرغم أن أبا فراس شاعر فحل يعتز بشعره ويريد أن يكون الشاعر الأول في زمانه إلا أن معاصرته لأبي الطيب المتنبي قد خيبت آماله وجعلته شاعراً من الدرجة الثانية مقارنة بمعاصره (أبي الطيب) الذي طبقت شهرته الآفاق وسار شعره في البرية مسير الشمس في الضحى.. أما راكان بن حثلين فقد حقق آماله ونجح في طموحاته فقد كان همه (عز قبيلته - العجمان - وقد نجح في ذلك تماماً، كما أن شعره سار على كل لسان معطراً بسيرة البطولة والشهامة.. أيضاً من الجوامع بين هذين الشاعرين (الفروسية) بأشمل معانيها: فكلاهما شجاع مقدام، وكلاهما شهم معطاء يتحلى بأخلاق الفرسان، وكلاهما أصبح مضرب المثل في الفروسية ذلك الزمان.. والأسر جامع آخر بين أبي فراس الحمداني وراكان بن حثلين، ومن العجيب أن كلاهما أسره الأتراك غدراً، ولبث في السجن التركي سبع سنين، وخرج ببطولة أسطورية تناقلتها الأجيال.. مفتاح الشخصية الاختلاف بين الرجلين الفذين ليس في الصفات بل في الأهداف: أبو فراس الحمداني (هدفه شخصي) وهو (مجده الذاتي) لذلك ثار على ابن سيف الدولة الحمداني طامحاً في الإمارة فسار إليه (فرعوية) مولى سيف الدولة والوصي على العرش (إذ كان ابن سيف الدولة صغيراً آنذاك) وقتله وهو في الأربعين من عمره، أي في عز رجولته وطموحه الشخصي الذي عبر عنه في أشعار كثيرة يختصرها بيت له واحد: (أيام عزي ونفاذ أمري هي التي أحسبها من عمري) أما (راكان بن حثلين) فقد كان هدفه أسمى من هدف أبي فراس وأكثر إيثاراً وإشراقاً وأوسع آفاقاً.. لقد كان هدف راكان الذي لم يَحدْ عنه أبداً هو (عزّ القبيلة) قبيلته الكريمة التي أحبها وأحبته وأخلص لها وبذل في عزها الغالي والنفيس حتى تحقق له ما أراد فقرت عينه وطاب عيشه وطال عمره وطار صيته الحسن في الأفاق.. * * * ومن الجوامع بين هذين العربيين أشعارهما في سجن الأتراك.. لأبي فراس قصائد كثيرة مشهورة وهو أسير سجين عند الأتراك وهي تُعرف في تاريخ الأدب العربي بالروميات، وهي من أجمل الشعر الإنساني.. ومنها قصيدته المشهورة: (أقول وقد ناحت بقربي حمامة أيا جارتا لو تشعرين بحالي معاذ الهوى ما ذقت طارقة النوى ولا خطرت منك الهموم ببالِ أتحمل مخزونَ الفؤاد قوادمٌ على غصن نائي المسافة عالِ؟ أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا تعالي أقاسمك الهموم تعالي) قالها وهو سجين حين رأى وسمع من خلال القضبان حمامة تنوح بهديل حزين. وراكان بن حثلين رأى وهو سجين في نفس البلاد التي سُجن فيها أبو فراس، سحاباً أسود يهطل بالمطر فحن لقبيلته وتمنى أن هذا المطر على أرض القبيلة وقال لسجانه حمزة فرحاً: - هل ترى المطر يا حمزة؟ فقال السجان الذي هو من بلاد تكثر فيها الأمطار: - لا حاجة لنا به!!.. وعلى الفور فاضت قريحة راكان بأبيات جميلة يتذكر فيها قبيلته الكبيرة ويتمنى لها دوام العز والبقاء وسرعة اللقاء معها. قال الأستاذ عبدالله اللويحان في كتابه (روائع من الشعر النبطي) ص216: - لما كان (راكان بن حثلين) في سجن الأتراك رأى في ليلة من الليالي برقاً فقال لسجانه - وكان اسمه حمزة: - ما تخيّل البرق؟ (أي كيف مطره)؟ فقال التركي: - زي بعضه!! ما لنا حاجة فيه يا راكان! فجادت قريحة راكان بهذه الأبيات: (أخيل يا حمزة سنا نوض بارق يبوح من الظلما حناديس سودها على ديرتي رفرف لها مرهش نشا وتقفاه من دهم السحايب حشودها فيا حظ من ذعذع على خشمه الهوى وتنشق من ريح الخزامى فنودها وتيمم الصمان إلى نشف الثرى من الطف والاحادر من نفودها يبري له سلفان اليا ناض بارق نحت له وهو نازح من حدودها حيربنا نسقيه كاس من الصدى والحبة الزرقا لكبده برودها بمذلقات الهند والشلف كنها ألسن سلاقي متعبتها طرودها! وخشوم طويق فوقنا كن وصفها صقيل السيوف اللي تجدد جرودها)