كان الأصمعي يحب التنقل في بادية العرب، ويسمع أحاديثهم ونوادرهم وأشعارهم بشغف، وينقل أطرفها إلى الخلفاء والولاة.. وقد أدركه حرّ الصحراء ذات صيف قاتل، فقرر الرجوع عن هذه المهمة الصعبة في هذا الجو الذي لا يطاق، وليكن ما يكون، يا روح ما بعدك روح، فقفل عائداً إلى بغداد يحث خطى المطية، فصادف في طريقه أعرابياً يسير على قدميه في شدة الحر، ومعه كلبه، فسأله الأصمعي: - كيف تطيق حر الصحراء يا أخا العرب؟! نحن الآن أول الصباح فماذا تفعل إذا انتصف النهار وتوسطت الشمس كبد السماء وانتعل كل شيء ظله وصار الحصى لظى؟! فقال الأعرابي: - وهل العيشُ إلا هذا؟!.. إذا انتصف النهار وانتعل كل شيء ظله فأسعد ما عندي خَباءٌ ادخله ويدخل منه قليل هواء.. هكذا روى الأصمعي وقد يكون مبالغاً غير أن الأعراب يعشقون البادية عشقاً تاماً، لأنهم فيها وُلدوا، وفيها نشأوا، واعتادوا على حريتها المقلقة، وأجوائها المتقلبة، وهم يعرفون صحراءهم جيداً بظروفها وأماكن مياهها ونباتها، وهبوب رياحها، يألفونها بل يمتزجون معها حتى إنهم كانوا لا يرضون عنها بديلاً.. وقد ورد في كتب التاريخ والأدب أن معاوية بن أبي سفيان حين كان ملك الدنيا، ذكرت له أعرابية جميلة وبنت ناس، وهي ميسون بنت بحدل، فخطبها الخليفة وتزوجها، ونقلها من بيت الشعر الذي كانت تسكن فيه مع أهلها في بادية العرب، إلى قصره المنيف في دمشق عاصمة الأمويين، فتضايقت حين فقدت عيشة البادية، ولم ترق لها عيشة الحضارة رغم أنها في قصر رائع، ولديها خدم تحت امرتها، ولديها ما تريد، لم ترض عن ذلك ولم يرق لها هذا النوع من الحياة التي لم تألفها، ولا هذا الأسلوب الذي لم تعتد عليه، فأخذت تبكي وتحن إلى حياة البادية وبيت الشَّعرَ حيث لا رفاهية ولا خدم.. طلبت الطلاق من معاوية بن أبي سفيان وأصرَّت كي ترجع إلى حياة البادية التي تحبها، فطلقها معاوية بعد إلحاحها، فرحلت إلى أقصى البادية وقالت شعرها المشهور: "لَبَيءتٌ تخفقُ الأرواح فيه أَحَبُّ إليَّ من قَصءر مُنيف ولبءسُ عباءة وتقرَّ عيني أَحَبُّ إليَّ من لبءس الشُّفوف وأَكءلُ كُسيرة في جَنءب بيتي أَحَبُّ إليَّ من أكل الرغيف وخرق من بني عمي نحيف أَحَبُّ إليَّ من علجء عنيف"!! وراكان بن حثلين الفارس المشهور أسعد ما لديه أن يكون الإنسان في صحراء الصمان يشم روائح الخزامى ويرى رحابة الصحراء على المدى: "فياحظّ من ذعذعَ على خَشءمَه الهوى وتنشَّى من أوراق الخزامى فنودها وتيمَّمَ الصمَّان إلى نشفَ الثرى من الطف وإلا حادر من نفودها" وقال عُمير التغلبي المُلَقَّب بالقطامي: "وَمَنء تكُ الحضارةُ أَعءجَبتهُ فأيُّ رجال بادية ترانا؟! وَمَنء رَبَطَ الجَحاشَ فإنَّ فينا قناً سُلُباً وأفراساً حسَانا وكُنَّ إذا أَغَرءنَ على جَنَاب وأعوزهُنَّ نَهءبٌ حيثُ كانا أَغَرءنَ منَ الضَّباب على حلال وَضَبَّةَ إنَّهُ من حانَ حانَا وأحياناً على بكءر أخينا إذا ما لم نجدء إلاَّ أخانا"! انظر حماسة أبي تمام 1/ص 203المقطوعة رقم 118، والبادية في الجاهلية يفخرون بالإغارة والسلب، وكذلك حالهم في بادية العرب قبل أن يوحدها عبقري العروبة والإسلام الملك عبدالعزيز - طيَّب الله ثراه -.. ومع أن البادية كادت تندثر الآن، إلاَّ أن عادتها الطيبة من الكرم والنخوة لا تزال موجودة عند كثيرين، كما أن الرحلات البرية إلى الصحراء ممتعة جداً.. وحبذا لو تم تنظيم سياحة الصحراء بشكل حديث مرتب.. ورجال البادية يصفون صحراءهم إذا كساها العشب وطاب فيها المرعى، وصف المعجب العاشق، قال أعرابي يصف البادية حين يكسوها العشب غبّ المطر: "خَلعَ شيُحها، وأبقل رَمءثُها، وخَضبَ عَرءفَجُها، وسار نسيمها بريح نبتها، واحوَّرتء خواصر إبءلُها، وشَكرتء حلوبتُها، وسمنت قتوبتها". احورت: ابيضَّت، شَكَرتء حلوبتها: أي امتلأ ضرع الناقة الحلوب فلا من مزيد! ومما ينسب لشاعرة بدوية قولها في تفضيل حياة البدو على حياة الحضر ولو أُعطيت ما يعادل كنوز الدنيا في زمانها: "حلفتء لو اعطى الحسا مع خراجه: (1) عليَّ بيبان الحضر ما يصكُّونء! عندي أَحَبّ من القَرَعء مع دجاجهء هيم مجاهيم بالاقفار يرعونء واحَبّ من لبس العبي والعلاجهء شاوية شقرابها الشوك مدفونء (2) ومن الحلو، عدّ كثير هماجهّ اكرع براسي فيه من غير ماعونء! (3) ومن البدو جلف يربِّي نعاجهء ولا سماقي من الورس مدهونء (4)" --------- (1) تقول انها أقسمت ألا يُقفل الحضر عليها أبوابهم ولو أعطوها الحسا كله مع خراجه! (2) العبي: البشوت جمع عباءة، وشاوية شقرا: نوع من العبي الرخيصة المهلهلة لونها أشقر تفضلها ولو كانت مليئة بشوك الصحراء وقتادها على عبي الحضريات الناعمات! (3) الهماج: المر، يقال: عجاج دماً هماج. (4) سماقي: طويل أبيض جميل، والورس: نوع من الطيب.