صورة الداخل المتعجلة في التعامل مع التعليم وما تفرزه من قرارات ومشاريع معزولة عما يريده المجتمع تزيد من حدة الخلاف حول التعليم فهي مشاريع تظهر كمفاجآت تصدم الناس وتجبرهم على تقبلها بصيغة «نحن اعلم منكم بشؤونكم» (1) كنت أفكر بجد كيف يمكن أن نوفق بين صورة تعليمنا في الداخل والخارج، وأريد هنا ان اكون واضحاً فمشكلة الصورة التي نريد ان نشكلها عنا في الخارج يجب ان لا تتأثر بالاختلاف في الداخل على قضية ما مثل التعليم، واقصد هنا انه حتى لو كان هناك خلاف في ماهية التغيير الذي نتمناه لتعليمنا يجب ان لا ينعكس هذا الاختلاف على الصورة التي نقدمها للآخرين عنا. فلا ينبغي مثلاً إن يعتقد الآخرون كوننا لا نتفق حتى الآن على صيغة معينة لشكل التعليم الذي نريده أن هذا الخلاف هو نوع من الإعاقة أو انه يعبر عن عدم وجود رغبة في التغيير والتطوير واننا نفضل العزلة ونبذ الآخرين ولا نرغب في التحاور معهم. وقد سئلت عن هذا مراراً في كثير من اللقاءات والمؤتمرات، وكان جوابي دائماً ان هنا اتفاقاً على تطوير التعليم والاختلاف فقط في التفاصيل، وان هذا الخلاف مسألة حيوية ولا نتوقع ان اي تغيير في التعليم يحدث هكذا بل يجب ان يأخذ الوقت الكافي. ويبدو ان هناك اهتماماً واسعاً بالمملكة وقضاياها على المستوى العالمي، ونتمنى أن نستثمر هذا الاهتمام لبناء صلات ثقافية متينة وفتح قنوات للحوار والتعريف بأنفسنا أكثر، لأنه من الواضح ان العالم يعرف عنا قليلاً جداً، وأن مبادراتنا وخطواتنا نحو الآخر بطيئة ومثقلة بالخوف والحذر. والحقيقة التي لا يختلف حولها اثنان ان فكرة التواصل مع الآخر عبر القنوات الرسمية ومحاولة تحسين الصورة من خلال الوفود لاتجدي نفعاً، وقد جربنا هذا الأمر من قبل، وما اجده مناسباً هو ان تتطور صلات اكاديمية وتعليمية وثقافية بيننا وبين الآخرين دون قيود ودون «محاذير». اننا نشاهد عالم اليوم يمد لنا يده اكثر مما مضى ويرغب في معرفتنا واكتشافنا، واتمنى ان لا ندعه يكتشفنا كما يريد هو بل نشاركه في رسم الصورة الصحيحة عنا. (2) عندما اتصل علي احد موظفي العلاقات الاعلامية (على ما اعتقد) من السفارة البريطانية في الرياض وطلب مني ملاقاة فريق من المهتمين بالتعليم في المملكة المتحدة ابديت موافقة على هذا اللقاء مباشرة، فقد كنت مهتماً بمعرفة مهمة هذا الفريق وماذا يتوقع ان يجد لدينا لا يعرفه عنا، كما انني كنت موقناً انه يتحتم علي ان اشارك هذا الفريق في رسم الصورة عنا فقد كان واضحاً ان هناك رغبة في معرفة ماحدث من تطورات تعليمية في المملكة ورأي المهتمين في الداخل في هذه التطورات. لقد كنت مقتنعاً انه لا يوجد هناك ما نخفيه على احد وكنت على قناعة انه يجب ان نتحاور مع الجميع حول مايهمنا ويهمهم. وفعلاً تم اللقاء في الرياض وكان الفريق مكوناً من شخصين احدهما البروفسور (جوردون كامبل) من جامعة لستر وهو مستشار للعلاقات الدولية وله اكثر من ثلاثين عاماً وهو يتردد على المملكة، أما الآخر فهو (جون برادشو) من مكتب الخارجية والكومونولث وعضو الجماعة الإسلامية العالمية. وكان هدف الزيارة هو التعلم من تجارب الآخرين من جانب ومن جانب آخر(وهو الأهم) إيجاد دور أكبر لبريطانيا (كونها ترأس اجتماع الدول الثماني الصناعية الكبرى في دورتها القادمة) والاتحاد الأوربي في المنطقة والتغييرات السياسية والاجتماعية التي تحدث فيها في الوقت الحالي. (3) ويبدو لي أن الفريق عنده تصورات محددة عن التعليم في المملكة لاتختلف كثيراً عن تصوراتنا لكنني اعتقد ان هناك بعض اللبس الذي يجب ان نوضحه للعالم وهو أننا عازمون على تغيير التعليم ولكن بشروطنا وبما نرتضيه لأنفسنا. والأمر هنا يجب ان يكون في غاية الوضوح، فقد ذكرت الفريق البريطاني بتجربة حدثت لي في بريطانيا نفسها (حيث تعلم اكبر ابنائي حتى السنة الخامسة الابتدائية في بريطانيا) فقد كان هناك رغبة في تغيير منهج العلوم في السنة الخامسة ليضاف عليه بعض الدروس في الثقافة الجنسية وكانت هناك معارضة مجتمعية وظل وزارة التعليم اكثر من خمسة أعوام تعقد ورش عمل لاقناع الناس بأهمية هذا التغيير وقد اشتركت في اكثر من ورشة عمل في هذا الخصوص. على ان احدهم قال لي «ولكن كان هذا مشروعاً واضحاً للتغيير فهل تستطيع ان تقول لي ماهي مشاريع التغيير في مجال التعليم الموجودة في المملكة في الوقت الحالي ويدور حولها نقاش وجدل ؟»..والحقيقة انني لم استطع ان اجيب على هذا السؤال. لقد انصب الحوار على الثقافة السائدة في المملكة وكيف تساهم في تعجيل أو تبطيء عملية التغيير «التعليمي»، وفي اعتقادي ان هناك صورة نمطية عنا باننا مجتمع يكره الحركة ويحتاج إلى وقت طويل للمبادرة، وان قراراتنا دائماً متأخرة، وهي صور تحتاج إلى تقييم متأنٍ وبحث جاد في اسبابها. ومع ذلك فقد ذكرتهم اننا نجري حواراً حقيقياً حول التعليم وأن هذا الموضوع يحتل مكاناً كبيراً في اهتماماتنا وهو ما سينعكس حتماً على المستقبل. (4) ويظهر لي اننا فعلاً نواجه مأزقاً في مسألة التطوير إذ اننا نتباطأ بشكل ملحوظ في وضع المشاريع لكننا ننفذ مشاريعنا بسرعة فائقة دون أن نأخذ رأي احد فيها، فقد تفاجأت فعلاً بعد ان عدت إلى الدمام بمنشور احضرته ابنتي معها من المدرسة حول التعليم الثانوي الجديد وهو منشور صادر في طبعته الأولى عام 1425ه ويظهر فيه التعليم الثانوي مثل نظام الساعات في الجامعة. لقد قمت بقراءته وانا مذهول من المفاجأة فمشروع مثل هذا يجب ان يملأ الصحف ويجب ان تعقد حوله ندوات لكن هانحن (أو ها انا لأنه قد يكون تقصير مني) اتفاجأ بالأمر وانا لدي ابناء في الثانوية العامة وآخرون في طريقهم للثانوية ويتم تبني مشروع بهذا الحجم دون ان يؤخذ رأي أحد (كما انني مهتم بالتعليم في المملكة واتوقع انني متابع لتطوراته). (5) لقد تذكرت حواري مع الفريق البريطاني وشعرت بالفرق بين بطء وبين عشوائية التغيير، فالبطء ليس عيباً لأنه جزء من فكرة «في التأني السلامة» والتأني هنا ليس السكون وغياب المشاريع، بل هو صياغة افكار مؤثرة وإشاعتها مجتمعياً عبر الحوار أما العشوائية فتعني هذه المشاريع التي تظهر بين ليلة وضحاها ونسمع انها درست لسنوات دون أن نعلم كيف درست ويتم تطبيقها بشكل مستعجل وكأن المجتمع مجرد مستقبل إذ ان واضعي هذه المشاريع لايتوقعون اي معارضة من مجتمع تعود قبول كل شيء وأي شيء. ولا اعلم لماذا إما في سكون أو في عجلة ولا نعرف كيف نجد موقعاً بين الاثنين. ومع ذلك فأنا لست بصدد تقييم التعليم الثانوي الجديد الذي اراه سيزيد من اعباء الأسرة (دروس خصوصية وخلافه) وسيجعل من حياة طالب الثانوية مثقلة بالهموم لمدة ثلاث سنوات بدلاً من سنة واحدة كما هو النظام المعمول به حالياً، ولا اعلم لماذا هذه المغامرات غير الضرورية والتي لا تفيدنا كثيراً فما هي الجدوى من تحويل الدراسة الثانوية لنظام الساعات هل المشكلة تكمن هنا؟ لقد سألت نفسي مراراً، وقلت والله لا اعلم، لكنها ربما رغبة البعض في وزارة التربية والتعليم. وأذكر انني في مقال سابق كنت ارى ان يصبح التعليم الثانوي تابعاً للتعليم العالي ولكن ليس بالصورة التي تفاجأت بها عندما قرأت منشور التعليم الثانوي الجديد. (6) هذا المشروع وغيره من المشاريع المتعجلة لا تساهم في تغيير التعليم التغيير الذي نتمناه بل تظل مجرد شكليات لاتصنع تطوراً حقيقياً لعملية التعليم، إذ يبدو اننا هنا مازلنا نبحث عن المسكنات التي توهم بالتغيير بينما جوهر العملية التعليمية ونوعية المخرجات كما هي. فأنا مازلت مؤمناً بفتح «حوار وطني» عام حول التعليم يلتقي فيه كل اصحاب الافكار الجديدة وكل المعارضين لتغيير التعليم ومازلت مؤمناً بفكرة التعليم المستقل بعيداً عن الطموحات الفردية لمنسوبي التربية والتعليم وبعيداً عن استخدام أبنائنا من اجل تجاربهم ومازلت اعتقد انه قد آن الأوان لتخصيص التعليم العالي والعام وكلها افكار بحاجة إلى آليات عمل متأنية وقد لا تتحقق الا بعد سنوات لكن البداية يجب ان تكون من خلال المشاركة العامة لا ان نتفاجأ بها كمشاريع معلبة مثل مشروع التقويم ومشروع التعليم الثانوي الجديد وغيرها من مشاريع لايشعر احد بجدواها سوى من وضعها. ولا اريد ان اكون متحاملاً على كل ما تضعه وزارة التربية من مشاريع وافكار، فبالتأكيد هي تجتهد لكن للأسف ان ثقافة «الوصاية» هي السائدة، إذ يبدو لي أن الوزارة ترى انها «وصية» على التعليم إلى درجة انها لا تريد لأحد ان يشاركها الرأي فهي تضع مشاريعها بمعزل عن المجتمع وتتوقع منه ان يقبل مشاريعها دون مساءلة. وحتى لا اظلم وزارة التربية، فذهنية الوصاية سائدة في جميع المؤسسات الحكومية لدينا ويبدو انها ثقافة مؤسساتية نعاني منها ونحتاج إلى مواجهتها وتغييرها، ولعل بداية التغيير يبدأ من مساءلة هذه الذهنية. (7) ويبدو ان صورة الداخل المتعجلة في التعامل مع التعليم وما تفرزه من قرارات ومشاريع معزولة عما يريده المجتمع تزيد من حدة الخلاف حول التعليم فهي مشاريع تظهر كمفاجآت تصدم الناس وتجبرهم على تقبلها بصيغة «نحن اعلم منكم بشؤونكم»، اقول يبدو ان هذه الحالة تجعل من صورتنا في الخارج اكثر ضبابية، وتبرز للآخرين التدخل في شؤوننا كوننا اصلاً نتبنى مشاريع لها تأثير مجتمعي واسع دون إجراء أي حوار، فمن الأولى ان يقوم الآخر الذي صار يعطي نفسه الحق في التدخل في شؤوننا ان يقدم مشاريع مشابهة لمشاريع الداخل ويتوقع منا أن نقبلها لأنه يرى اننا مجتمع لديه الاستعداد لقبول المشاريع المعلبة أو «المسبقة الصنع». انها نوع من «الوصاية» يرى الآخر اننا تعودنا على قبولها ولايجد ضيراً في أن يمارسها معنا. وفي اعتقادي انها صورة نمطية نحن من نستطيع تغييرها من خلال فك حالة الوصاية «المؤسساتية» على المجتمع بحيث يصل الجميع إلى قناعة انه لايحق لهم التفكير بدلاً عن المجتمع بل يجب اتاحة الفرصة له لاتخاذ القرار بنفسه. هذه المشاركة هي التي تصنع حزام المقاومة وتكفل لمشاريع التغيير في الداخل النجاح، وتمنع اي احد من التدخل في شؤوننا. (8) لقد دام اللقاء مع الفريق البريطاني قرابة الساعة اثيرت فيه مجموعة من الافكار والمقارنات إذ يبدو أن هناك حالات بيروقراطية متشابهة نجدها في كثير من نظم التعليم في العالم، على ان البعض أوجد مع الزمن حلولاً لمثل هذه الحالات التي تحد من الحركة، وهو ما شعرت به عندما تحدث احد اعضاء الفريق عن اسلوب الدعم الحكومي للجامعات البريطانية الذي يتم عن طريق مكتب للتنسيق يكون فيه احد اعضاء وزارة التربية عضواً. ويظهر لي انه لايوجد حالة مثالية يمكن اتباعها بحذافيرها لكن هناك حالات نتعلم منها وتظل الحالة المحلية لها خصوصيتها وهو ما يذكرني بالقول المعروف الذي اكرره دائماً «المشاكل المحلية تحتاج حلولاً محلية»، وهو ما حاولت ان ابنيه للفريق، إذ انه رغم الخلاف الداخلي حول معالجة حالة التعليم عندنا إلا أننا يجب ان نوصل هذه الرسالة للعالم «نحن اعلم من غيرنا بما نحتاج إليه»، كما انه يجب ان يعرف الآخرون اننا وصلنا مرحلة من النضج نستطيع معها ان نضع ايدينا على مشاكلنا وتطوير حلول لها حتى لو كان هناك مقاومة من البعض لعملية التغيير فإن هذه المقاومة تظل في حدود الحوار الذي يمكن ان نصل من خلاله إلى قناعات مجتمعية تصب في نهاية الأمر في مصلحة الوطن.