،، الإصلاح يبدأ بإصلاح مفهوم المواطنة والانتماء، ويبدو أنني أرى في المواطنة «الحل السحري» لكل ما نعانيه من مشاكل في الداخل والخارج، على أن من يتبصر قليلاً سوف يجد أنه لا يمكن أن يكون هناك تغيير إيجابي إلا من خلال إرادة جماعية، وعندما يؤمن مجتمع ما بفكرة الوطن الواحد يتجاوز كل الصعوبات،، (1) خلال الأيام الماضية احتضنت الرياض المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب، وكان من الواضح أن هذا المؤتمر ليس فقط من أجل وضع تصور دولي لمفهوم الإرهاب وسبل مكافحته (رغم كل الصعوبات التي تواجه وضع حدود واضحة لماهية الإرهاب) بل كان تظاهرة على مستوى المجتمع المحلي، ربما لمواكبة الحملة الوطنية لمكافحة الإرهاب للمؤتمر الأمر الذي جعل هذا الملتقى، رغم صبغته الدولية، يحظى بمتابعة محلية كبيرة.. فالمملكة التي عانت كثيراً من الإرهاب حاولت عبر هذا التجمع الدولي بعث رسالة للعالم تقول فيها انها دولة متحضرة لا تقبل بأي حال من الأحوال أن تكون منطلقاً للأيدي العابثة بأمن الناس الأبرياء ومقدراتهم في كل مكان في هذا العالم، ولم تقف عند ذلك بل أكدت عبر أجهزتها وتبنيها لمركز دولي لمكافحة الإرهاب أنها عازمة على التصدي لهذه الظاهرة بكل السبل المتاحة.. وهذه الرسالة الواضحة يجب أن نستثمرها داخلياً كذلك بحيث تتحول الحملة الوطنية لمكافحة الإرهاب إلى برامج عمل تدفع للتغير والإصلاح سواء على مستوى التربية والتعليم لبعث فكر جديد يقبل الرأي الآخر ولا يحجمه أو يهمشه أو على مستوى السلوك بحيث يصبح المناخ العام إيجابياً ويفضل المصلحة العامة على الخاصة.. إن إيجاد مثل هذا المناخ أصبح ضرورة في ظل الظروف الحالية التي بدأنا نشعر فيها من خلال ممارسة البعض سلوكيات لا تعزز مفهوم الجماعة وقيمة المجتمع الواحد، وكل ما أتمناه ألا تتحول الحملة الوطنية إلى فعل مؤقت ينتهي بمجرد انقضاء أيام الحملة، فالأمر يستحق أن تتواصل هذه الحملة كي تساهم فعلاً في صياغة المناخ الإيجابي الذي نتمناه. (2) العمليات الإرهابية التي عاشتها الرياض والمملكة خلال العامين المنصرمين أوجدت جواً مشحوناً بالخوف والترقب، وترتب على هذا تبعات اقتصادية واجتماعية كما أنه قلص من جمالية الحياة المدينية التي كنا نحياها، فثقافة الحجارة الاسمنتية، والأسوار الخرسانية التي اقتطعت من شوارعنا الجميلة والأسلاك المعدنية التي شوهت تلك المناظر المفتوحة التي كانت تشعرنا بأننا في مجتمع متحضر يستعد للنهوض، كلها مظاهر صرنا نعيشها وتقبلناها على مضض.. لا أحد يستطيع أن يقول أن ما حدث خلال العامين الماضيين كان في مصلحة بلادنا، ولا أحد يفكر أو يتمنى أن تتكرر مثل هذه الأحداث، فالكل دفع ويدفع ثمنها، ولأننا دولة تعد نفسها للانطلاق بما تملكه من مقومات اقتصادية وبشرية تؤهلها لمثل هذا الانطلاق لذلك فإنه لا يوجد مجال هنا للاستسلام لحالة الإرهاب التي عشناها في الفترة الأخيرة، ولعل كثيراً منا شعر بفاتورة الأمن الباهظة، فلا أحد يمكن أن يساوم على الأمن.. ورغم إيماننا أن كل المجتمعات الكبيرة والحية يوجد فيها اختلافات كبيرة في الرأي وفي التوجه، دون أن يتحول هذا الاختلاف إلى عمل مسلح إلا أن ما حصل عندنا هو أن الاختلاف في الرأي صنع عقولاً إرهابية لا تريد أن يرى الناس غير رأسها (لا أريكم إلا ما أرى).. هذا الأمر يحتاج إلى مواجهة على مستوى الوعي والتثقيف المجتمعي وبمشاركة كل فئات المجتمع، واحدى سمات هذا التثقيف هي إيجاد مساحة ومتسع للحوار، وتبيين أن الاختلاف في الرأي يجب ألا يفسد للود قضية.. كما يجب أن يكون هذا الحوار غير موجه أو مقيد، نحن فعلاً بحاجة إلى مناخ للحوار مفتوح ومتحرر من كل القيود. (3) على هامش المؤتمر استضافتنا (أنا والدكتور سعود المصيبيح، مدير عام العلاقات والتوجيه بوزارة الداخلية) قناة «أوربت» للتحدث حول الحملة الوطنية لمكافحة الإرهاب وقادنا الحديث لمفهوم «المواطنة» كونه مصطلحاً تتركز فيه كل القضايا التي يمكن أن نتحدث حولها، فنحن لا نتوقع أن يكون هناك من يشعر بأنه ينتمي لهذا الوطن ويفكر للحظة أن يقوم بعمل إرهابي.. ولأن المواطنة في كل ثقافات العالم تعني «الإحساس بالسكن» Sense of Home والذي يعني أن يرتبط الإنسان بوطنه ويدافع عنه كما يرتبط بمسكنه وأسرته ويدافع عنها.. وكان من الواضح أن تفعيل المواطنة في نفوس وعقول الناس في بلد كبير مثل المملكة بحاجة إلى مراجعة وإلى عمل مكثف ومبرمج.. في اعتقادي أن وجود تيارات فكرية مختلفة ووجود مذاهب دينية متعددة لا يتعارض مع المواطنة، فالوطن للجميع والكل فيه سواسية، وهو ما يجب أن يصل إلى كل فرد في المملكة قولاً وعملاً.. ولو أتحنا الفرصة للحوار الحر سوف تكون فكرة المواطنة مثار جدل وقد لا يتفق على شكلها اثنان لكنها في آخر المطاف تقود إلى الانتماء إلى هذا الوطن الكبير.. قد لا يصدق أحد أننا في مؤسسة مثل الجامعة ولا نتحاور أو أننا لا نجد الفرصة كي نتحاور، حتى أنه لم يعد للمحاضرات العامة قيمة، لا يحضرها أحد لأنها لا تثير شيئاً.. فكل شيء مبرمج ومعرف سلفاً.. فإذا كانت الجامعة لا تصنع أو تدفع للحوار فما بالكم بالمؤسسات الأخرى.. هذا الوضع له انعكاسات كبيرة وخطيرة على تشكيل المناخ الاجتماعي والثقافي العام فهو الذي يدفع إلى أحادية الفكر ويجعل كل واحد متعصباً لرأيه إلى درجة نفي الآخر. (4) لقد كان رأيي أن المواطنة تبدأ من التعليم الذي يجب أن يعزز الشعور بالوحدة وبالتلاحم، ثم بعد ذلك بالإحساس بتكافؤ الفرص، ولعل ما أعلنه سمو النائب الثاني الأمير سلطان أن مجلس الشورى سوف يمثل كل مناطق المملكة يعبر عن رؤية عميقة «للمواطنة» التي يجب إعادة بنائها في نفوس أبناء الوطن، كما أنني أرى في الانتخابات البلدية بداية قوية للمشاركة في عملية اتخاذ القرار وتطوير مؤسسات للمجتمع المدني تشارك في صنع المستقبل (وهو ما أكد عليه البيان الختامي لمؤتمر الرياض لمكافحة الإرهاب).. المواطنة شيء كبير لا يمكن أن نحققها «شكلياً»، لأنه ما لم تتجذر في نفوس الناس وتصبح جزءاً من سلوكهم سوف تفاجئنا الأزمات بما لا يسرنا. (5) الناس غالباً ما تتعلم المواطنة بالممارسة وليس بالكلام، أي اننا كلما اتحنا الفرصة للناس كي يمارسوا حقوقهم المدنية سيتولد لديهم الشعور بالمواطنة، ويبنى لديهم الحس بالانتماء.. فما حدث يوم الخميس (1 محرم)، عندما انطلقت مؤسسات المجتمع المدني في العام الهجري الجديد (عام المؤسسات) حيث بدأت أول عملية انتخاب للمجلس البلدي بعد كل هذه الحملات الدعائية للمرشحين وتلك التظاهرات الاجتماعية والثقافية المثيرة التي بيّنت التنوع الثقافي والاجتماعي والاقتصادي الذي يعيشه مجتمعنا.. إنني على يقين ان هذه التجربة ستحرك الكثير من المياه الساكنة وستحدث دوياً داخل نفوس الناس وستعيدهم إلى فكرة «المجتمع المدني» الذي يمكن أن يشكلوه كما يرغبونه وبما يخدم وطنهم.. انها بداية للمشاركة في صنع القرار، ولا أحد ينكر أن هذه المشاركة هي ممارسة للمواطنة أكثر من أي شيء آخر، وستجعل الكثير من المترددين الذين احجموا عن تسجيل أنفسهم كناخبين أن يفكروا كثيراً في المرات القادمة كما أنني على يقين انها ستترك أثراً كبيراً على المناطق التي لم يبدأ التسجيل فيها وستدفع الكثير للمشاركة (وهذا ما نتوقعه إن شاء الله). (6) أكثر ما أثارني في الحملات الإعلانية للمرشحين للمجلس البلدي في الرياض هو «ثقافة الحوار» التي بدأت تتشكل من هذه التجربة المهمة، ومشاركة فئات متعددة من المجتمع مثقفيه وعوامه شعرائه وعلمائه في الترويج للمرشحين.. ورغم المبالغات التي شهدتها بعض الحملات الانتخابية إلا انها في مجملها كانت ممتعة وتدفع لثقافة جديدة.. كما أنني أعتقد أن حوارات تلك الحملات كانت أكثر تأثيراً من مداولات «الحوار الوطني» لأنها حوارات مفتوحة غير منتقاة عبّر فيها المرشحون ومؤيدوهم عما يؤمنون به بعفوية، ربما نحن بحاجة لمثل هذه الحوارات العفوية لأنها ستقرب بين الناس وستفتح آفاقاً من التنافس الشريف بينهم.. لا أعلم ماذا سيحدث في المستقبل نتيجة لهذه التجربة المهمة نحو الانفتاح والتقارب بين كل فئات المجتمع لكن بالتأكيد ستكون هناك تحولات في الثقافة العامة في كل مدن وقرى المملكة سنعيشه هذا العام والأعوام المقبلة وهو ما يمكن أن يصنع شعوراً بالمواطنة لم يتشكل بهذه الصورة من قبل. (7) إننا نتحدث عن المواطنة كإطار عام لبناء الصورة الداخلية لما يمكن أن نسميه تصادم الصورة الداخلية التي نحاول أن نصنعها لأنفسنا وصورتنا في الخارج.. ومن الواضح ان هذا التصادم بين هوية «الداخل» وهوية «الخارج» أمر حتمي فما يمكن أن نقوله عن انفسنا قد لا يراه الآخرون فينا.. ولأننا لا نستطيع سلخ أنفسنا عن العالم الذي نعيش فيه فإن هذا يعني بشكل أو بآخر أن نستجيب لصورتنا في الخارج ونحاول أن نعدل من صورتنا في الداخل كي تصبح صورتنا الخارجية أكثر قبولاً.. ومن الواضح ان الترابط هنا أمر حتمي لأنه مهما حاولنا أن نحسن صورتنا لدى الآخر قد تسيء لها سلوكيات البعض في الداخل، ولعل ما يقوم به البعض من إساءة لصورتنا من خلال مشاركاتهم في الأعمال الإرهابية خارج المملكة أحد صور الترابط بين الداخل والخارج التي يجب أن نبحث لها عن حلول.. أعود وأكرر أن رفع قيمة «المواطنة» عليه معول كبير في علاقتنا بالآخر وتحسين صورتنا عنده. (8) قبل مؤتمر الرياض، كنت في البحرين، أشارك في منتدى الخليج للتنمية (السادس والعشرين) الذي ركز على علاقة دول الخليج بالولايات المتحدةالأمريكية وكان جل الحوار حول المسلمات الأمريكية حول العقل العربي والمجتمعات العربية.. فالولايات المتحدة ترانا مجتمعات نعيش في القرون الوسطى، يصعب أن نتغير ولا ترى لدينا امكانات التغيير الذاتي.. ويبدو انها تجد في هذه المسلمات مبررات كافية للتدخل في شؤوننا الداخلية.. ورغم خطورة هذه المسلمات على مستقبلنا وعلى علاقتنا بدولة مهيمنة على العالم إلا اننا يجب أن نواجه هذه الحقيقة بحكمة.. قبل أربعة عقود تقريباً قال أحد السعوديين لأحد الغربيين الذي كان يزور الرياض (عام 1966م) اننا نريد الحداثة لكن بطريقتنا، واليوم نسمع كثيراً من يردد «نريد الإصلاح ولكن بطريقتنا»، وحتى يكون هذا الإصلاح مجدياً يجب أن تكون خطواته أكثر تسارعاً من خطوات التحديث التي مررنا بها في السبعينات (والتي كانت سريعة وهائلة).. ربما يكون من المجدي حقاً أن نفكر في المسلمات الأمريكية حولنا وفي خطوات الإصلاح التي نقوم بها وهل ستغير صورة «الأمريكان» عنا، فكما أننا نريد أن يكون أمرنا بيدنا وأن نصنع لأنفسنا التغيير الذي يناسبنا كذلك لا نستطيع أن نهمل تأثير دولة مثل أمريكا تتفرد بتسيير العالم حسب مصالحها، وتصنف الأمم حسب رؤيتها وتعرف المصطلحات كما يشتهي قادتها. (9) أعود مرة وأخرى وأقول ان الإصلاح يبدأ بإصلاح مفهوم المواطنة والانتماء، ويبدو أنني أرى في المواطنة «الحل السحري» لكل ما نعانيه من مشاكل في الداخل والخارج، على أن من يتبصر قليلاً سوف يجد أنه لا يمكن أن يكون هناك تغيير إيجابي إلا من خلال إرادة جماعية، وعندما يؤمن مجتمع ما بفكرة الوطن الواحد يتجاوز كل الصعوبات التي يمكن أن تمر به من أجل الدفاع عن هذا الوطن والذود عن حياضه.. يذكرني هذا بالمحاولات الأولى لتأسيس دولة حديثة في المملكة فقد كان الهم الأول هو تذويب كل الفوارق بين المجتمعات المحلية في بوتقة واحدة تكرس الهوية الوطنية. ربما نحن بحاجة الآن أكثر من أي وقت مضى أن نعيد الكرة مرة أخرى لتذويب كل الفوارق بين أبناء الوطن لبناء اللحمة الوطنية وإعادة تعريف الهوية الوطنية بما يتناسب والمخاطر التي نعيشها في الوقت الراهن.