الشاعر الجهني حامد الصيدلاني من مواليد الجابرية في ينبع النخل عام 1337ه كما يشير إلى ذلك الأخ حامد السناني في كتابه « شعراء من الحوراء »، والحوراء منطقة تمتد من ينبع البحر متجاوزة أم لج إلى الشمال، وقد عرف الشاعر بابداعه الشعري في الكسرة ومحاوراتها والشعر الشعبي بعامة محاوراته ومراسلاته ومطولاته من القصائد، وقد خلعت ثقافته على شعره تفوقا في كل ميادين الشعر وبخاصة حفظه للقرآن الكريم في صباه، فقد نشأ الشاعر في مجتمع يحب الشعر ويحتفي به ويكاد الشعر يكون لسان حال الخطاب بين أبناء الينبعين وما جاورهما. أدرك الشاعر أواخر مرحلة الكفاح والتغرب وأعمال الفلاحة والبحر وأوائل مرحلة التحولات الاجتماعية والاقتصادية والنزوح من القرية إلى المدينة، وكانت مدينة جدة مهوى كثير من أبناء الينبعين الذين لم يتعودوا البعد عن ينبع، تلك المنطقة التي تضرب في البعد الحضاري وتمتاز بمزارعها وعيونها وثرائها الثقافي، والمسافة القصيرة بين ينبع وجدة تمنح القلوب المتعلقة بمرابع الصبا فرصة استنشاق أكسير الحياة التي تشدهم إلى ينبع ولا تجعل حياتهم في جدة تمثل غربة شاقة، ومع ذلك فقد شهدت هذه الفترة معاناة المولعين بديارهم فكان الشعر متنفساً لهم يبثون من خلاله مشاعرهم وانطباعاتهم وأشواقهم وحنينهم عبر مراسلات بين النازحين والباقين بين عروش النخيل والينابيع التي أخذت في الانحسار، وكانت منازل الينبعيين في جدة منتديات للشعر الجميل الذي ينقل انعكاسات التجربة الجديدة. وأعذب الشعر ما كان غزلا أو حنيناً أو نقلاً لثقافة جديدة، ومع التشابه الكبير بين الحياة في ينبع البحروجدة إلا أنها تختلف عن ينبع النخل قرية الشاعر ذلك المجتمع الريفي المحافظ، مما جعل شاعرنا يشده بثقافة المجتمع الجديد في جدة ، وما استطاع أن يحجب ذلك عن أصدقائه، فكان يزودهم بانطباعاته وتساؤلاته عما جد من بعده ، ويشركهم بشيئ من تجربته. والشاعر عرف بشفافيته وسرعة تأثره بما يدور من حوله من أحداث، حتى ولو كانت بسيطة ولا تثير غيره، وقد كان وقاره في قريته يمنحه هيبة مخاطبة بعض مواطنيه له لوقع القيم وتأثيرها في الناس، ومغبة تفسيرات ما يحدث من ذلك وتأويلاته، فالتحرز والتهيب هذا لم يكن سائداً في مجتمع جدة المنفتح على ثقافات العالم ، فعندما كان الشاعر يعبر شارع السيد في الحي الذي يقيم فيه تلقى عبارة: صباح الخير بلهجة مختلفة عما تعود في قريته، فراقت له هذه العبارة وبلغ من تأثيرها أنه شغل بها وشده بتأويلها فنقلها إلى أحد أصدقائه في ينبع عبر الأبيات التالية: وَيْلي على من تولاّنا وحنّا ما وليناه سلّط علينا سهوم الود لاما صَوَّبنّي الصُّبْح يا ابو دخيل فْشارع السيِّد صدفناه جدّد عليّ الجروح اللي من الماضي بَرَنّي يا زِين قَوْلَة صباح الخير يا اخي من شفاياه تْتوّه القلب لو انه حَجَرْ يرجع يحنِّ الله وَهَبْه الجمال وثانياً بالعقل رَسَّاه والله يا اخُوْيْ لا قبله ولا بعده فتنِّي الجاهل اللي غريب الشكل ما شفنا حلاياه أَيْ والذي مْوَرّش الأشجار واخْضَرْ كل فنِّ جدّد وسوم الهوى من بعد ما قلنا نسيناه واستاسر القلب يا مْحمد بليَّا راي منِّى أبو عيون كحيلة تجرح العاشق وتبلاه لِيَاطالَعَنْ هِنْ عجلات القدر ما يَرْحَمنِّ عز الله انى قتيله يا محمد كَسْبْ يمناه وان راحت الروح خَبِّرْ كل من هو سال عني وقل لهم راح مجروح الهوى وانّا إلى الله والثار لا يدوّرونه عند خلِّي لو قتلني رحم الله الصيدلاني وغفر له، رسالة سردية تضمنت غزلاً رقيقا ورفيعاً يحمل المنهج الذي عرف به الشعر الشعبي الحجازي، سهل التناول بيّن المعاني، بعيداً عن وحشي المفردات والعبارات الضاربة في الرمزية المرهقه، وله موسيقى تستدعي تداعي الشجون واستحضار الزمان والمكان وملامح المجتمع عاداته وقيمه ورموزه ومناهجه في التعبير. ولا شك في تلقي الشاعر رداً من صديقه أبي دخيل محمد بن دخيل الإبراهيمي ولعلنا نعثر على الرد، فمن أدب المراسلات ألا يهمل المتلقي شكوى المرسل العزيز. إن تناول هذه الأبيات يأتي في إطار الحديث عن الأدب الشعبي موضوعاته ومعالجاته غريبة ونوادره وعلاقته بالحياة الاجتماعية ونقل تقاليدها وقيمها وأساليب الخطاب الأدبي الشعبي باعتبار أنه من أشكال التعبير التي يبدعها الشاعر للكشف عن خلجاته ومعاناته بأداة تعبيرية رفيعة تختلف عن الخطاب الدارج. وما دفعني إلى إيضاحه اليوم تساؤل المراقب الذي علق على طرحي السابق لهذا عن معاناة شاعر تعذر عليه رفد أصدقائه في مناسبة زواج أحدهم لضيق ذات اليد، وتمثيل ذلك مشكلة لدى الشاعر، واعتبار المراقب أني أقدم مجتمعاً مثالياً يستغرب وجوده. ومهما يكن من غرابة فإن المجتمع الذي أتحدث عنه أكثر ما يكون معاصراً للنماذج الشعرية التي تصاحب تلك الأحداث وذلك الطرح والتي أرى أنها ما يهمنا من الشعر الشعبي باعتباره مصدراً معرفياً ويحمل حساً أدبياً من حيث الفنية الأدبية، فالشاعر الشعبي يختار هذا الشعر لأنه لا يملك أدوات التعبير بالفصحى مثلما يملك الجوانب الفنية للشعر ، ومع ذلك يتواضع حين يعترف للفصحى ويقر بقصوره عن بلوغها مهما ارتفع المستوى الفني لشعره عن شعر الفصحى، وأنا لا أميل إلى تشجيع الشعر الشعبي في زمن أدرك أكثرنا من العلم ما يمكنه من التعبير بالفصحى، فقد انتهت مرحلة الشعر الشعبي، ولم يبق إلا أن نهتم بالقديم منه الذي سد فراغاً كبيراً في نقل تقاليد الماضي أحداثاً وتأريخاً اجتماعياً، وتعبيرا فنيا فيه من الصور والخيال والبيان ما يسمه بالأدب. والمجتمع القديم الذي أنقل شيئاً عنه هو مجتمع صغير غير معقد التركيب، وغير متنوع الثقافة، وهو مجتمع مستقر يعرف أفراد بعضهم بعضاً، ويهتمون بفضائل الأعمال وتجسيد أواصر الجوار ووشائج القربى، وإشاعة الفضيلة، وأنا أقدم نماذج من هذا وذاك، وقد أتفاعل مع ما يروقني من جيد الشعر وجميل التجربة، فتظهر الذاتية في الطرح بما لا يسلب الواقع حقه، ولعل لي عودة إلى الإيضاح.