والصداقة قرابة أخرى بل هي أبلغ من قرابة النسب في كثير من الأحوال، لاسيما عند ما لا يكون الصديق من الاخلاء الذين بعضهم لبعض عدو، وقديماً قالوا رب أخ لم تلده أمك، وقد حرصت الآداب العالمية على أهمية الصداقة ودورها في تشكيل شخصية الأصدقاء. واليوم لفت انتباهي مقطوعة شعرية أوردها الشيخ عبدالله بن خميس حفظه الله في كتابه " الشوارد" الجزء الثالث الخاص بشوارد الشعر الشعبي، وهي للشاعر محمد بن مسلم، ولم يذكر شيئاً عنه، وانتقاء الشيخ عبدالله لشوارد الشعر له بعده الفني والفكري، فالشيخ من رواد الأدب في بلادنا لما له من إسهام وإثراء في كل ميادين الأدب بشقيه الفصيح والشعبي، ولعل كتابه " الأدب الشعبي في الجزيرة العربية " أفضل كتاب تناول هذا الموضوع وبين فيه العلاقة بين أدب الفصحى وما اصطلحنا على تسميته بالأدب الشعبي، الذي يبدع باللغة الدارجة، ويقتفي أدب الفصحى بكل معاييره ما عدا الالتزام بقواعد اللغة العربية "النحو". أعود إلى المقطوعة الشعرية الشاردة والتي منها: من الرأي سامح صاحبك لا تعاتبه إلى زل أو أبطا بشيٍّ تراقبه خذ ما تيسَّر منه واستر خماله إلى عاد نفسك في ملاماه راغبة فان كنت في كل المشاحي موادب رفيقك ما تلقى الذي ما توادبه فمن لا يسامح صاحبه عند زلّة خلاه صرف البين من غير صاحبه وكما نرى، نجده في البيت الأول يدعو إلى التسامح ودفع العتاب عند ما يرتكب الصديق زلة أو يخطئ أو يتأخر في إنجاز وعد قطعه، فلعل له عذرا وأنت تلوم، وفي البيت الثاني قبول ما يجود به الصديق مهما كان يسيراً من عون مادي أو معنوي أو تصرف دون ما تنتظر منه، والتمس لصديقك العذر، ولا تشهر بصنيعه أو ذكر إخلاف ظنك به، واسع لنشر ذكره الحسن، لا سيما إذا كنت راغباً في استمرار الصداقة بينكما بل حتى وإن كنت زاهداً في صداقته فليس من الخلق ذكر مساوئ صديق بعد طيب مودة وحسن ثقة، لماذا؟ لأن للصداقة أهمية في الحياة، وأن الصداقة الصادقة ما أسست على مزايا مستحسنة في كل من الصديقين، وأنها لا تقوم على مصالح ذاتية بقدر ما هي علاقة ذات مثل عالية، وتفرعات ذات تأثير في تماسك المجتمع وتقارب أطرافه، وأن ما يطرأ على صفو الصداقة من غيوم إنما هي حالات طارئة سرعان ما تزول بمعرفة أسبابها وتجاوز العقلاء عن صغار وجسام معكرات هذا الصفو؛ فمن يحرص على محاسبة أصدقائه على زلاتهم لن يجد صديقاً بلا أخطاء، ومن لا يسامح أصدقاءه سيبقى الدهر وحيداً، وعندها سيفقد كثيراً من مكتسبات الصداقة من دعم وعون ومشورة ومؤانسة ومواساة وسواها من فضائل الصداقة. وقد حدد الشاعر في مقطوعته خمسة حقوق للصديق على صديقه اعتبرها من واجبات الصداقة: وللصاحب الصافي حقوق لوازم خمسٍ وهي في سَمْت الأجواد واجبة إلى زار إكرام، والى صد نِشْدة ،والى زل غفرانٍ، والى غاب كاتبه والخامسة إن جاك في حد عازة تصفق به الدنيا واشافيه لا غبة تلقاه بالمجهود وعجّل فربما تحمد مكافاته الى جَتْك نايبة إكرام في اللقاء، وسؤال عند الصدود، وغفران وصفح عند الخطأ، ومكاتبة في الغياب، وعون عند الحاجة. هذه الواجبات والحقوق بين الأصدقاء يحددها الشاعر في خمس قيم هي أهم ما كانت في زمن الشاعر، ولعل كثيراً من القيم الأخرى يضمها هذا الإجمال أو أن الشاعر تجاهلها لأن المحافظة عليها مسؤولية فطرية تأبى النفوس أن تمتد إليها، فالإكرام قيمة جامعة لكل ما يستجيب له اللقاء من تفريج الهموم واشباع الوقت بالبشاشة والتكريم المادي والمعنوي باستعادة الذكريات وطرد الهموم وذكر الأصدقاء وتحولات الحياة مما يجدد العهود ويملأ الوقت سروراً. أما السؤال عند الصدود فهو تكفير للجفاء وإيقاظ لمشاعر الوفاء وتذكير بواجبات الصداقة وعمقها. أما الصفح عن الزلل فلأن ذلك لا يحدث قصداً وإنما هو وليد أسباب طارئة يصاحبها سوء فهم أو غضب، فمن عفا وأصلح فأجره على الله. أما المكاتبة عند الغياب فتعويض عن الحرمان من متعة المصاحبة، وما أكثر وسائل المواصلة اليوم. وأخيراً العون وما أكثر جوانبه لعل من أبسطها المشورة والمؤانسة والمواساة ونحوها ولكن أعلاها الدعم المادي بقدر المستطاع وبذل الجهد بطلب كان أو نتيجة تفقد أحوال الصديق، وبخاصة من يحول تعففه دون إعلان حاجته، وكم كان تفقد أحوال الأصدقاء روحاً ذات معنى لا يدركه كثير منا في زمن الانشغال بالأمور الذاتية والسعي لتعزيزها، وننسى أن بإمكاننا اقتطاع جزء يسير من مالنا لسد حاجة صديق، أو بذل قليل من جاهنا ونصحنا لتعزيز كفاية عافّ من أصدقائنا بل وسواهم، ولابد أن نتذكر أن دوام الحال من المحال وقد ضرب زماننا لنا أمثالاً كثيرة يجب أن نتعلم منها، ومن ذلك ما اختتم الشاعر به مقطوعته إذ يقول: فما البر بين الناس إلا ذخيرة كما قال ربك والأحاديث جات به وما الوجه إلا طول فتر وعرضه إلى ضاع من يعطيك وجهاً تعاض به صْنُهْ عن ردي الخال والجد والذي إلى شاف وجهاً قاصده صر حاجبه يوم لك ويوم عليك، هذه فلسفة تبادل البر. التي حض عليها القرآن الكريم والسنة المحمدية، أما الوجه فهو هوية الإنسان رغم صغر مساحته، ومنه تعرف ردود فعل من تلقاه لحاجة، فانشراح الوجه رسول لانشراح الصدر، أما صر الحاجب وتقطيبه فهو دليل رفض، ومن لم يقطب حاجبه عند قصده لغلظة وجهه فإنه يعمد إلى حك ملتقى رقبته برأسه (علباه) تعبيراً عن عدم استجابته، إن الصور التي جاءت في أبيات الشاعر هذه حرية بالتأمل، وكذلك الإيجاز. أما الأسلوب واللغة فإنها وإن أشارت إلى ثقافة أدبية وتأثر بالفصحى واقتراب من شعر الفصحى إلا أنه لا يستغرب من شعراء الجزيرة العربية ظهورهم هذا، فالبادية كانت مهوى علماء اللغة العربية للتزود بمفرداتها وشواردها، وقد عرف ميلهم لشعر الفصحى ومحاولة الابداع فيه إلا أن قيود العربية دفعتهم إلى اللغة الدارجة وما زال الشعر الشعبي في الجزيرة العربية لا يبعد كثيراً عن الفصحى، ولا شك أن شاعرنا أدان نفسه بهذه الأبيات التي توحي بأنها من روح أبيات للشاعر بشار بن برد التي منها: إذا كنت في كل الأمور معاتبا صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه فعش واحداً أوصل أخاك فإنه مقارف ذنب مرة ومجانبه إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه لقد راقت (ربما) قصيدة بشار لابن مسلم فخلعها على مجتمعه وأنبتها نباتا برياً وفصل مقاصدها وفق رؤية يستوعبها مجتمعه، ونقل ما أطربه في أبيات بشار في إطار ينبثق من القيم الاجتماعية التي يسعى الشاعر الشعبي إلى ترسيخها في مجتمعه. وأخيراً صديقك من صَدَقَك لا من صدّقك. مذكرة: حدث في مقال الأسبوع الماضي سقوط عبارة في بيت الشعر وصحته: قد قيل ما قيل إن صدقاً وإن كذبا فما اعتذارك من قول إذا قيلا كما وردت كلمة «ارتكى» وصحة البيت: ارتحل يا حمود منبوز الفقارة آركي وحبال كوره كالفات وابن فهاد هو المشهور بابن حصيص. فشكراً لكل من أضاء المقال بتعليق.