توجيه سمو ولي العهد بتخصيص ملياري ريال للإسكان الشعبي جاء في توقيته المناسب، ودائماً التوقيت مناسب عندما تأتي قضايا الإسكان، فالإسكان هاجس جميع فئات المجتمع، بقطع النظر عن مستويات دخولهم واحتياجاتهم، فالسكن همّ إنساني، وحاجة متجذّرة في الفطرة الإنسانية، التي تتوق إلى الاستقرار والسكينة والراحة والهدوء.. أليس هذا معنى السكن لغةً؟ إنه «عنوان» الإنسان، ورمز استقراره، ولا يمكن للإنسان أن يتحول إلى طاقة إنسانية منتجة، ومساهماً بإيجابية في مجتمعه دون توفر حّد أدنى من السكن، يليق بكرامته وآدميته، له ولزوجته وأولاده من بعده. ومن هنا، تتبارى الحكومات، على اختلاف توجهاتها السياسية والاقتصادية، لتوفير هذه الخدمة لمواطنيها بصيغ مختلفة، ولكن جميع هذه الصيغ يجمعها عنصر مشترك، وهو أن يحصل المواطن - أي مواطن - على سكن يلائم وضعه في السلم الاقتصادي، وظرفه ومكانته في مجتمعه، وفي توقيت مناسب من حياته، وبشروط مُيسّرة وميسورة.. والمملكة ليست استثناءً، فلديها منظومة من البرامج لتحقيق هذا الهدف المجتمعي لعل أبرزها منح الأراضي وصندوق التنمية العقارية.. إلاّ أن هذه الآليات الحكومية بدأت تعاني من عدم قدرتها على تلبية احتياجات المواطنين لأسباب خارجة عن إرادتها، أهمها تزايد أعداد المواطنين أنفسهم، وعجز صندوق التنمية العقارية عن ملاحقة تلبية الطلبات الذي يقرض وفقاً للاعتمادات المالية المخصصة له، فضلاً عن التأخر في السداد، وأحياناً عدمه، من قبل بعض المواطنين، يُضاف إلى ذلك نسبة الإعفاءات الواردة في نظامه. ثم جاء توجيه سمو ولي العهد، الأسبوع الماضي، بتخصيص ملياري ريال للإسكان الشعبي ليحّرك ساكن الجهود الإسكانية، خاصة تلك الموجهة لأكثر فئات المجتمع السعودي حاجة. لقد قامت مؤسسة الأمير عبدالله بن عبدالعزيز لوالديه للإسكان التنموي بمسوحات شاملة لأغلب مناطق المملكة، واتضح أن هناك شريحة من المجتمع السعودي قد «سقطت» من دائرة هذه الجهود، وهي تلك الشريحة المعدمة التي لا تملك توفير احتياجاتها المعيشية اليومية، ناهيك عن توفير رأس مال لشراء أرض سكنية، والقدرة على تمويل تكاليف إنشاء مبان سكنية عليها.. وهي شريحة فقيرة تسكن الخيام والعشش والصنادق ومنازل الصفيح والكهوف وعشوائيات المدن والأراضي المغتصبة وغيرها.. وغالباً ما تتركّز هذه الفئات في الشريط الساحلي الغربي للمملكة بدءاً من ضباء، مروراً بالقنفذة، وانتهاءً في عمود والراس في جيزان.. وهذه مساحة شاسعة من المملكة تمتد آلاف الكيلومترات على طول امتدادذلك الشريط، هذا فضلاً عن جيوب مشابهة في شمال وغرب ووسط المملكة. هذا الاحتياج الإسكاني، ولشريحة واحدة فقط من المجتمع، لا يمكن النهوض به، بطريقة كفوءة، بملياري ريال، تُوزّع هكذا، دفعة واحدة وينتهي الأمر.. في حين أننا نستطيع بشيء من التؤدة وحُسن التدبير، وقليل من التخطيط السليم، والمنهجية الواقعية أن نعظّم هذه المكرمة من الدولة.. وذلك عبر وصفات عالمية مُجرّبة وناجحة في جميع المجتمعات، ذات التجربة الراسخة في تقديم خدمات الإسكان، للشرائح المعدمة من مواطنيها.. وهي «وصفة» سهلة جداً إذا تولّتها جهة مُقتنعة بها، ولديها بعض الإمكانيات للنهوض بها. الواضح أن لدينا في اليد، مليارين، والشريحة المستهدفة هي الشريحة المُعدمة جداً، وهذه مُقدّرة إحصائياً بعشرات الآلاف، إن لم تكن أكثر، وفوق ذلك كله، موزعة في عدد من مناطق المملكة، وبشكل متباعد جداً، فالمملكة قارة، كما هو معلوم. والسؤال: هل بإمكان مليارين من الريالات تقديم خدمة محسوسة ومؤثرة، في هذا العدد الكبير من المواطنين المحتاجين، في مناطق شاسعة مترامية الأطراف؟ أزعم بأن الإجابة بالنفي، إلاّ إذا كان لدينا الخيال والصبر والرغبة الحقيقية في تعظيم الفائدة من مكرمة الدولة، وهذا ليس صعباً ول مستحيلاً، إذا أُسند الأمر إلى جهة تتمتع بمرونة مالية وإدارية، ولا تخضع لإجراءات الحكومة المقّيدة، أحياناً،.. حبذا لو أن معالي وزير الشؤون الاجتماعية اتخذ قراراً استراتيجياً، ورتّب مع معالي وزير المالية، وهو الآخر من كل خير قريب، بأن يحول المبلغ كاملاً لحساب الصندوق الخيري الوطني (لمعالجة الفقر)، على أن يقوم الصندوق باستثمار جزء كبير من المبلغ، ومن عوائد الاستثمارات، مع ما يتلقاه الصندوق من دعم الدولة مستقبلاً، وتبرعات وزكوات وصدقات واشتراكات، يتم الصرف على بناء وحدات سكنية صغيرة اقتصادية جداً، وبمواصفات معقولة، وبالاتفاق مع شركات كبرى متخصصة بالبناء لمثل هذه الوحدات، ويتم تقسيط هذه الوحدات على الشريحة المستهدفة بمبالغ لا تتجاوز (200) ريال شهرياً، ولمدة في حدود (30) سنة، ويتم تخصيص جميع أراضي الدولة المخصصة للمنح لصالح الصندوق، الذي يقوم بدوره بتخطيطها بقطع صغيرة في حدود (200)م2، وتطويرها عن طريق مشاركات مع القطاع الخاص لتصبح ضواحي سكنية حديثة في المدن والمحافظات والمراكز التي تقع فيها. هذه الخطة الطموحة ذات فوائد منها القضاء على ثقافة الهبات التي نخرت التكوين النفسي للمواطن السعودي، وعودّته الاتكالية المرضية، التي جعلته يريد من الحكومة كل شيء، ولا يريد أن يقدم شيئا، والأمر الآخر، الذي لا يقل أهمية، هو أن هذه الخدمة الإسكانية سوف تستمر لهذه الشريحة عبر الأجيال.. الآن ومستقبلاً.. بدلاً من أن تكون بيضة ديك.. إذا كان الديك يبيض؟! ٭ أمين عام مؤسسة الأمير عبدالله بن عبدالعزيز لوالديه للإسكان التنموي