يقف الشعر الآن على قدمٍ واحدةٍ وبعكّازٍ مكسور، أخذت الصورة منه جمهوره، وعجز عن أن يأخذَ منها مايعينه عليها، انشغل عن التاريخ بها، ودخل معها في منافسة خائبة، فالشعراء الذين (وسّطوا) الصورة بينهم وبين جمهورهم المنصرف عنهم إليها، لم يدركوا بعد أنها أشبه بالريح التي ينقش النحّات على جدرانها قصائده، ثم يروي على الناس في ركنٍ بعيدٍ ظلْمته التي لا تنتظر الصباح، ويشكو على الوجودِ عبثيته التي لا تنتهي به إلا إليه. هكذا كما يبدو لي الأمر، ترك الشاعر التاريخ وهو الذي رضخَ له دائما، لينتظر الرواية منه بعد أن يكتملَ الخبر وتتأطّر الصورة، في حين أن بإمكانه أن يأخذ الصورة إليه ليظلّ محافظًا على أزلية هيمنته على التاريخ عبر عصوره المتراتبة. فالأحداث التي تتشكّل منها تضاريسه القومية المعاصرة، قدّمتها له الصورة خبرا قادرا على الاستغناء عن روايته، وتركت للتاريخ اختياراته منها فيما بعد، وذلك بعد أن نحّت الشاعر عنها، حينما شعرت بوهم منافسته لها. إن الشاعر الآني الغافل أحيانًا عن التغيّر الجوهري والحقيقي في مفهوم الشعر تاريخًا وخارطةً، سيجد نفسه آخر الأمر مشلول اللسان والفعل، بعد أن كانت حرفته قول الفعل، وفعل القول في آنٍ واحد، هكذا تماما كما قالت القصيدة ذات انتباه: (العصافير فوق الشجرْ ..! والممرّ طويلٌ طويلٌ وظلّ العصافير أرهقَ ظنَّ الفراشاتِ فارتبكتْ تنتظرْ كلُّ تاريخنا جملةٌ فعلُها الآن ماضٍ .. وشاعرها فاعلٌ مستترْ..!) في المقابل كانت الصورة في أول الأمر تعترف بالشعر كمحرّضٍ لتأطيرها وشيوعها، لكنها حين عانت من وهم فوقيته عليها تمرّدت عليه، ونأت عنه، ولا مناص لحضوره في غيابها ألا أن يغيب فيها، ويحضرُ في ألوانها، ولا مفرّ كذلك من غيابه في حضورها، إلا أن يغيب منها، ويحضر في تبعاتها، هذه العلاقة الدقيقة والمعقّدة الآن بين الشاعر ومكوّناته ورؤاه ولغته من جهة وبين اللحظة التي لا تنتظره منظّرا لها، أو خطيبًا مفوّهًا ليقولها من جهةٍ ثانية، أظنّ أنها تشكل الموقف الآني الدقيق من الشعر، الذي ظلّ دائما ذاكرة القول والرواية لكنه حين أراد أن يستأثر بمساحة المسرح كاملة، وقع في أزمةِ (النوع) الذي يفترضه الشاعر النرجسي الذي يمكن أن ينجوَ من هذه الأزمة. وبدا لنا أحيانا أن كل شاعر يفترض أن النوع الذي يكتبه وحده فقط هو الناجي من هذه الأزمة، حين وقع فيها أقرانُه الآخرون، فقصيدة النثر بكل مؤيديها ومريديها ومبدعيها لاتزال تمارس هي الأخرى تطرّفا وغلوّا أشدُّ بكثير مما يمارسه ومارسه التقليديون المأخذون بالقديم، وشعراء التفعيلة تاهوا وتغرّبوا كثيرا بين هؤلاء وأولئك، ولهذا كله انصرف عنهم المتلقي نحو الصورة وتركهم في صراعهم يعمهون..!