لزمن ليس بالقصير ظللت أفكر وأتأمل في جرأة بعضنا على استعمال أفعال التفضيل بإسراف يوشك أن يفقد هذه الأفعال قيمتها التي صكت من أجلها، ويفرغها من محتواها بهذا النوع من الاستهلاك المبتذل، والاجتراء الذي يحرج الجرأة نفسها.. طفقت أدير التفكير في الدواعي التي يمكن أن تحمل الإنسان لإطلاق جملة من الأحكام عبر أفعال التفضيل دون أن يملك أي سند أو مسوغ لذلك، ووقع في خاطري أن مرد ذلك يمكن أن يكون إلى أحد إحساسين؛ إما استعلاء أجوف لا قاعدة له وقوائم، أو إحساس بدونية مقيتة تحمل صاحبها إلى المضي عميقًا في جلد الذات.. ففي الحالة الأولى، تسيطر نوازع النفس المستعلية على صاحبها فلا يرى غيره، ولا يحس بأحد سواه، وعند هذه الحالة تخرج كل أفعال التفضيل من لسانه مباشرة دون أن تمر بسطح العقل ناهيك عن عمقه، فلا يسأل نفسه حجة، ولا يمر بخاطره منطق، ولا يهتم كثيرًا لما يتفوق به الآخرون عليه، فهو في النهاية متفوق عليهم بمنطقه.. ومثل هذا النوع قد يتعدى دائرة أن يكون فردًا، فقد يكون أسرة، أو قبيلة، أو أهل قرية ومدينة، وتتسع الدائرة ليكون لسان دولة في بعض الأحيان.. وخطورة مثل هذا النزعة نحو التفضيل أنها تحجب عن الذات رؤية نقصها، وتزيد من تضخمها، وتضاعف من ورمها، وعند ذلك سيكون المنطق بكل جلائه، أبغض الأمور إليها، والحجة أعسر على فهمها، ويحلو عند ذلك سماع ما يخدرها، ويزيد من ورمها المرئي وغير المرئي. وفي الحالة الأخرى، الإحساس بالدونية، تعمد النفس إلى استعمال كل الأفعال التي تحط من أقدار النفوس، في سياق من جلد الذات تخصيصًا وتعميمًا.. ولا أظن أني بحاجة إلى تقديم نماذج وأمثلة لعبارات وألفاظ وكلمات أصحاب الفريقين، فهي أوضح وأبين وأكثر شيوعًا في مجتمعاتنا العربية، ويبدو لي أننا قد ورثنا ذلك من أدبنا القديم والحديث، وبخاصة الشعر، فمساحة المديح والفخر والمنافحة في الشعر العربي قد استهلكت أفعال التفضيل على نحو مسرف، تجاوز في أحايين كثيرة حدود المنطق السليم، وقد كان هذا التجاوز أكثر ما يستملحه المستمعون، وينتظره المنتقدون، فكلما أظهر الشاعر براعة في دحر «الآخرين» باستعلاء لفظي يمس يافوخ السماء تيهًا وعجبًا كلما كان لسان قومه المُقدَّم، وفارس عشيرته المبجل، ولن يألو الطرف الآخر في رده على ذلك بمفردات مبذولة في قاموس العربية، يستهلكونها بيسر، وينفقونها بأريحية في «صراع الديوك» هذا.. هكذا مضى بنا الحال، ملأنا الساحة كلامًا، وهزمنا الناس في محافل الخطابة، والغريب في الأمر أن هذه الصورة تغيّرت بصورة دراماتيكية في عصرنا الحاضر، بخاصة في الشعر أيضًا، فتحوّل كل ذلك الاستعلاء إلى رغبة عارمة في جلد الذات، حين أدركنا أننا أضعنا العمر في «الكلام»، وأنفقه غيرنا في تطوير ذواتهم والخروج من دائرة الجهل إلى المعرفة حين أعملوا عقولهم، وأسكتوا ألسنتهم، فتحول خطابنا الشعري في كثير من قصائده نقدًا كاسحًا، وتقريعًا مرًّا، وهجاءً مضى بعضه إلى تجريدنا من كل فضيلة، ومسح كل ما لدينا من موروث، والتشكيك في كل سطور تاريخنا.. وما كان لأصحاب الاتجاهين أن يصلا إلى هذه الحالة من «التطرف» لو أنّ العقل كان مسيطرًا، والمنطق ظل سائدًا، والبصيرة المضيئة حاضرة، عند هذه اللحظة فقط سيدرك الجميع أننا لسنا في حاجة إلى أن نتفاضل على الآخرين بالقول واللسان المفوّه؛ بل سيكون الفعل هو سيد المفاضلة، واللسان المفصح عنها، فما زيادة الكلام في غير حاجة إلا لنقص الفعل في معرض العجز، وحقًّا ما زاد أحد في أمر ما إلا لنقص يجده في نفسه.. غاية ما وصلت إليه من حالة التأمل هذه أن بعضنا -وما أبرئ نفسي- نُفقِد ألفاظ التفضيل معانيها عندما ننفقها في سوق التيه والخيلاء بغير سند ولا حجة، فنحن الأفضل، ونحن الأحسن، ونحن ونحن.. إلى نهاية هذه «النحننات» وكلها تصلح أن تزيد من تورمنا، لكنها لن تفلح في أن تفتح لنا باب العقل والبصيرة لندرك أين موقعنا الحقيقي في هذا الكون الذي تجاوز أفعال التفضيل، إلى «منجزات التفضيل الحاضرة»، وهذا سوق أظن أن بضاعتنا فيه تثير الرثاء، وتدعو إلى الشفقة وطلب الرحمة، هذا قول أرجو ألا يكون فيه أي منزع نحو جلد الذات، بقدر ما أطمح أن يكون توصيفًا لحالة آمل أن نخرج منها وشيكًا. (*) كاتب وباحث أكاديمي