في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، في قمة لشبونة بالبرتغال، وافقت تركيا على نشر مكونات درع حلف «الناتو» الصاروخية على أراضيها. والتوقيع على موعد تنفيذ بنود المعاهدة أخرجها من الرومانسية والأحلام الوردية التي وسمت سياساتها الخارجية، وأسقطها من عالم الأوهام إلى أرض الواقع. يومها، أقرت تركيا بأن إيران تمثل خطراً محتملاً جراء برنامجها النووي وصواريخها البعيدة المدى. وفي تلك اللحظة التاريخية، سقطت سياسة «تصفير المشكلات مع الجيران» التي صاغها وزير الخارجية أحمد داود أوغلو، فلنتخيل مثلاً أن تركيا رفضت إبرام تلك المعاهدة وخاصمت شركاءها وحلفاءها في الغرب من أجل الحفاظ على سياسة داود أوغلو مع الجار الشرقي، في وقت يمضي (الجار هذا) في تطوير صواريخه البعيدة المدى ويواصل سعيه إلى تزويدها (الصواريخ) برؤوس نووية. وإذا بلغ الجار أهدافه، وهذا غير مستبعد، اختل توازن القوى القائم بين تركيا وإيران منذ 500 عام، ورجحت كفة طهران. وتحول الجار الشرقي قوة عظمى، وصارت تركيا تابعة له لتتفادى غضبه. وعلى رغم أن الأمور واضحة، دعمت أنقرةإيران لتواصل تحايلها على المجتمع الدولي، وعارضت في مجلس الامن فرض عقوبات جديدة عليها وكأنها تنتظر منها أن تغير سياساتها وأن تبادلها الرومانسية، فسياسة «صفر مشكلات» تدعو إلى كسب قلب طهران. ومع توقيع تركيا على معاهدة الدرع الصاروخي، أصبحت فجأة رأس حربة في مشروع الدرع، الذي بدأ يتحول الى مشروع تدخل فعلي للحؤول دون الأحلام الايرانية. وفي نهاية الامر، لا يصح إلا الصحيح، و «تشخيص» أنقرة الخطر الإيراني يشبه التشخيص الغربي له. وجليّ أن اصحاب نظرية تصفير المشكلات في الخارجية التركية أيقنوا، ولو متأخرين، أن انتماء تركيا الى النظام الغربي لا مفر منه، وأن مجال المناورة محدود في المنطقة. وربما لجأت وزارة الخارجية التركية الى الدرع الصاروخية بناء على معطيات وحسابات امنية داخلية من أجل حفظ الامن القومي، فعدلت عن سياساتها الرومانسية، وحسناً فعلت. واللافت أن سياستنا الخارجية سارت في الاشهر الماضية منذ توقيع الاتفاق وكأن شيئاً لم يكن ولم يتغير، إلى أن آن الوقت المناسب للإعلان عن الاتفاق مع «الناتو» على الرادارات والإنذار المبكر. وأصدرت الخارجية بياناً خجولاً عن الاتفاق رداً على سؤال صحافي. ولا يخفى على أحد أن هذا السؤال لم يُسأل. والخجل هو وراء تأجيل وزير الخارجية الاعلان إلى اليوم الذي قرر فيه شن حرب باردة على اسرائيل ليضيع توقيع اتفاق الدرع الصاروخية بين بقية الاخبار. وهل ثمة دولة اخرى في العالم تعلن الحرب على دولتين جارتين في يوم واحد، لكنها تزمجر في وجه واحدة بينما تهمس في اذن الاخرى؟ ان مشاركة تركيا في الدرع الصاروخية خيار استراتيجي تمليه ظروف المنطقة وسياسات طهران الاقليمية، وآن أوان تكيّف سياساتنا الخارجية مع الواقع، و أن تترك المناورات والتستر وراء قصص ألف ليلة وليلة. * عن «مللييت» التركية، 12/9/2011، إعداد يوسف الشريف