ما كادت حكومة «العدالة والتنمية» التركية تجد لنفسها ولبلادها مخرجاً، ولو موقتاً، للفكاك من ملاحقات إدارة الرئيس باراك أوباما الرامية إلى حملها على المشاركة في مشروع الدرع الصاروخية الأميركية قبل عامين، حتى زج بها القدر في مواجهة أخرى مع الحلف الأطلسي حول المشروع ذاته بعد أن صار أطلسياً. فقد سبق لتركيا أن تلقت عرضاً أميركياً في عام 2008 وإبان زيارة أردوغان واشنطن، يقضي بإشراك أنقرة في مشروع أميركي يخطط لنصب مظلة دفاعية صاروخية ورادارية تقدر ببلايين الدولارات لحماية الدول الأعضاء في حلف الناتو والدول الحليفة ضد مخاطر الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى التي تملكها إيران ودول أخرى، وذلك بنشر المضادات الصاروخية الاستراتيجية الباليستية الأميركية على السفن التابعة للقوات البحرية الأميركية في شرق البحر الأبيض المتوسط وربطها بأنظمة للإنذار المبكر على الأراضي التركية. واليوم، وبعد أن تحول مشروع الدرع الصاروخية من أميركي صرف إلى أطلسي بعد أن تبناه الحلف الأطلسي أخيراً وجعله مكملاً للمشروع الأطلسي الجماعي للردع النووي كي يقنع الدول الرافضة أو المتحفظة عليه مثل تركيا بالموافقة، أضحت حكومة «العدالة والتنمية» وللمرة الثانية على موعد جديد مع مطالبات من الحلف الأطلسي للمشاركة في المشروع الجديد للدرع الصاروخية في أوروبا، الذي تصل تكلفته إلى نحو 200 بليون دولار وسيبدأ تشغيله عام 2015. وفي حين آثر الرئيس أوباما في مطلع كانون الأول (ديسمبر) 2008 عدم تكثيف الضغوط على رئيس الوزراء التركي إبان محادثاته مع واشنطن لإقناعه بالمشاركة في مشروع الدرع الصاروخية الأميركية، يبدو الأمين العام للحلف الأطلسي الدنماركي راسموثين غير مستعد لاتباع النهج ذاته، حيث يتطلع ذلك الأخير إلى الحصول على موقف نهائي وإيجابي من تركيا قبل عقد قمة الناتو المزمعة يومي 19 و20 من الشهر الجاري المقبل في لشبونة. ولا يكمن المأزق التركي فحسب في قصر المهلة التي حددها الناتو لاتخاذ قرار نهائي في الموضوع وإنما في تقارب دوافع القبول مع دواعي الرفض للمشاركة في هذا المشروع الأطلسي المثير. فمن جهة، تبدو كثيرة الأسانيد، التي يمكن أنقرة الارتكان إليها في الرفض، ومن أبرز هذه الأسانيد: أن نصب محطات وقواعد للدرع الصاروخية الأميركية في أراضي تركيا، وإن كان لغرض دفاعي بحت، فإنه قد يزج بتركيا مجدداً في أتون الحرب الباردة الجديدة التي ستتمخض عن هذه الدرع الصاروخية المثيرة للجدل، لتكون جبهة أمامية ومحورية فيها، وهو ما قد يجعل من المصالح التركية في داخل البلاد وخارجها هدفاً لأية ردود فعل انتقامية من موسكو أو طهران لاحقاً، في محاولة لحمل واشنطن على إزالة قواعد الدرع الصاروخية الأميركية من الأراضي التركية. وعلاوة على ما سبق، تبدو حكومة «العدالة والتنمية» مسكونة برغبة ملحة في إبراز استقلالية القرار التركي داخل الناتو وفي مواجهة الضغوط الأوروبية والإملاءات الأميركية. خصوصاً في ظل أجواء عدم الثقة التي تخيم على علاقات تركيا بالحلف منذ انضمامها الاضطراري إليه في عام 1952، فلطالما طلبت أنقرة دعمه مراراً في مناسبات عدة وأزمات شتى كان من أبرزها الحرب المستعرة منذ عام 1984 مع مسلحي حزب العمال الكردستاني والتي استنزفت تركيا مادياً وبشرياً وأمنياً، غير أن الحلف لم يتجاوب وضن على الأتراك بالدعم، على رغم تصنيفه حزب العمال الكردستاني منظمة إرهابية، في حين لا تتورع غالبية دول الحلف عن السماح للحزب الكردي المحظور بتأسيس منظمات ومكاتب وشركات ووسائل إعلام في ربوعها، ناهيك عن موقف دول الحلف السلبي من مسألة انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، فعلى رغم أن غالبية دول الحلف في الاتحاد الأوروبي، إلا أنها لم تدعم مساعي تركيا الحثيثة والمزمنة في هذا الخصوص، على رغم جاهزيتها لنيل العضوية الكاملة. كذلك، تنتاب حكومة «العدالة والتنمية» مخاوف من أن يكون المقصد من نصب محطات للدرع الصاروخية الأطلسية على أراضيها توريط تركيا في شكل غير مباشر في أي عمل عسكري مزمع ضد إيران عبر سلبها قدرتها الردعية في مواجهة أي هجوم عسكري محتمل ضد منشآتها النووية من إسرائيل أو واشنطن أو حلف الناتو، والمعتمدة بالأساس على الصواريخ المضادة للطائرات والصواريخ، حيث يرمي الناتو إلى اصطياد أو إعاقة الصواريخ التي قد تطلقها إيران ضد مهاجميها عموماً، وإسرائيل تحديداً، حال حدوث ذلك الهجوم، وهو ما تأباه أنقرة التي لا ترغب في أن تكون طرفاً في مثل هذا الهجوم. وبخصوص ما يشاع عن أي تهديد صاروخي محتمل من روسيا أو إيران، فقد ألمحت حكومة «العدالة والتنمية» إلى أن حرصها على تجنب أي تدهور في علاقاتها مع إيرانوروسيا لم يكن ليحول دون سعيها الدؤوب لأن تأخذ حذرها في شكل منفرد وتتحسب لأسوأ الاحتمالات والظروف، حيث أكدت مصادر تركية أن أنقرة تخطط لشراء صواريخ باتريوت بقيمة بليون دولار تحسباً لمخاطر الأنظمة الجوية الدفاعية والهجومية لإيرانوروسيا، كما تعكف على عملية تقويم متواصلة وموسعة لمستوى التسلح والعقيدة العسكرية لكل من طهرانوموسكو، فضلاً عما بحوزتهما من أنظمة صواريخ. وبعد تجدد العرض الغربي لتركيا من خلال الناتو هذه المرة، أبدى أردوغان تمسكه بتحفظات تركيا على المشروع معلناً أنه يرفض سياسة الأمر الواقع، التي يرمي الناتو من خلالها إلى استخدام تركيا أداة وجبهة أمامية ضد إيران وسورية وروسيا. فسياسة تركيا الخارجية بعد عام 2002 قائمة على تصفير المشاكل مع دول الجوار وتعزيز استقلالية القرار التركي والنأي به عن أجواء الحرب الباردة التي كانت تركيا تمضي خلالها خلف الغرب في مواجهة روسياوإيران والعرب، ما أضر بعلاقاتها مع تلك الدول، فيما لم يكن العائد على المستوى الذي كانت تتوقعه تركيا أو تستحقه. ومصداقاً لذلك، أعلن مهندس السياسة الخارجية التركية أحمد داود أوغلو أن بلاده لا تريد العودة الى أجواء الحرب الباردة. ولما كان لهذا التوجه تكلفته الباهظة، أطلت علامات الاستفهام حول قدرة حكومة «العدالة والتنمية» على إمكانية تحمل تلك التكلفة من عدمه. وها هنا، تلوح في الأفق حزمة من المؤشرات تشي من زاوية أخرى بإمكانية قبول حكومة «العدالة والتنمية» للمشروع الأطلسي الجديد، على رغم تحفظاتها، التي أعلن أردوغان تمسكه بها ورفض أية ضغوط على بلاده في هذا الشأن، لا سيما إذا تسنى لأنقرة تحسين ظروف وسياق تلك المشاركة عبر إدخال شروط أو تعديلات معينة عليها، ومن أبرز هذه المؤشرات: أن رفض تركيا المشاركة في المشروع، الذي صار أطلسياً بعد أن كان أميركياً صرفاً، ربما يؤكد الادعاءات والاتهامات الغربية والإسرائيلية لها أخيراً ببعدها التدريجي عن الغرب وتقاربها مع الدول المناهضة له كإيران وسورية. يضاف إلى ذلك أن التحفظ التركي على المشروع كان يستند بالأساس إلى مراعاة أنقرة مصالح وأمن كل من روسياوإيران، اللتين شهدت علاقاتها بكل منهما نقلة نوعية للأمام خلال السنوات القليلة المنقضية على الأصعدة كافة في محاولة لتجاوز التداعيات السلبية لأجواء الحرب الباردة، بيد أن روسيا بدأت تتراجع أخيراً عن معارضة المشروع بعد ترضيات ومساومات تمت بينها وبين واشنطن على أكثر من صعيد وفي غير موضع. كما أن مسؤولين عسكريين أتراكاً ألمحوا إلى أن المشروع الجديد يتيح إمكانية الاتفاق على أمور تقنية يمكن أن تضمن عدم مساس المشروع بأمن إيران أو روسيا وفضائها السوفياتي السابق. وبينما تعي حكومة «العدالة والتنمية» أن بمقدور الناتو إيجاد بديل لتركيا في هذا المشروع عبر دول آسيوية أخرى أعضاء في الناتو أو أخرى تتطلع إلى نيل تلك العضوية بأي ثمن، تبدو تركيا غير مستعدة بعد لأن تثقل كاهلها بخلافات مع القوى الغربية مجتمعة، في وقت تعود دولة مثل فرنسا الى حظيرة الناتو مجدداً بعد قطيعة دامت 44 سنةً لتعزز علاقاتها العسكرية والسياسية مع الحلف، كما لا تقوى تركيا أيضاً على تحمل تكلفة إغضاب واشنطن وحلفائها الأطلسيين، بالتزامن مع استمرار التوتر في علاقات أنقرة بتل أبيب عقب حادثة أسطول الحرية والتي ألقت بظلاله على العلاقات التركية - الأميركية بحيث باتت تشهد بروداً هذه الأيام أثر سلباً على مبيعات السلاح الأميركي لتركيا خلال الآونة الأخيرة. وما بين ميل اضطراري للاحتفاظ بمساحة، لا بأس بها، من التفاهم والدفء في علاقاتها «المحدودة الفائدة» بحلفائها الأطلسيين، ونزوع للإبقاء على خطواتها التصالحية ومساعيها التقاربية مع أصدقائها الإقليميين، لا يبقى أمام حكومة «العدالة والتنمية» سوى القيام بمواءمة محسوبة ودقيقة في شأن الموقف من الدرع الصاروخية الأطلسية، تتيح لها الاحتفاظ بحد أدنى من التفاهم مع الجانبين، على نحو قد لا يتأتى إلا من خلال موافقة «مشروطة» أو «معلقة» على المشاركة في هذا المشروع، ترتهن بتعديلات تطرحها أنقرة على نوعية مشاركتها في المشروع، ربما لا يتم الإعلان عنها رسمياً قبل تنسيق وتشاور مع موسكووطهران ودمشق، فضلاً عن مطالب وإرضاءات تركية تعرض على كل من واشنطن والناتو والاتحاد الأوروبي. * كاتب مصري