يُعد التسول ظاهرة غير حضارية في كل المجتمعات، وقد خرجت من كونها احتياجا مؤقتا للفرد في أضيق الحدود إلى وظيفة يمتهنها البعض في كل الأوقات وتجارة رابحة لهم، بل وتطورت حتى أصبحت عملية منظمة، لها هيكل وظيفي متدرج ومتنوع يبدأ من المتسولين في الميدان إلى المراقب والمشرف والسائق والمحصل المالي لجمع المحصول آخر اليوم. وقد برزت "ظاهرة التسول" بشكل لافت للأنظار، وخاصة ًبعد ما أفرزت الطفرة المادية مستويات معيشية وطبقات اجتماعية، بالإضافة إلى تمتع أفراد المجتمع بالطيبة الزائدة والشفقة العالية، وربما بسبب الواقع الذي تعيشه بلادنا أثناء مواسم الحج والعمرة. وتمارس هذه الظاهرة بعدد كبير من قبل المتخلفين أثناء المواسم، حيث تعج شوارع جدةومكةالمكرمةوالمدينةالمنورة بهؤلاء الوافدين الذين يمتهنون التسول لمواجهة الظروف التي تجابه حياتهم المعيشية، وقد استخدم هؤلاء التسول وسيلة لجمع أكبر قدر من الأموال في غير حاجة؛ فأخذوا يتنافسون فيما بينهم دون رادع أو حياء، بطريقة استغفال واضحة، استغلوا من خلالها عطف وتسامح المجتمع، وكذلك المقيمون على أرض المملكة، هؤلاء تفننوا بطرق كثيرة واحترافية تستعطف الآخرين؛ وركزوا من خلالها في استخدام الأطفال الصغار والنساء، وتم تدريبهن وأطفالهن على التظاهر بالضعف والفقر لكسب العطف وجمع المال. "الرياض" تلقي الضوء على هذه الظاهرة لتوضح أنها لا تعتمد على مطالبة مكتب مكافحة التسول بتنظيم جولات رقابية، بقدر ما تستدعي إحساس المواطن أن هؤلاء المتسولين ليسوا متسولين ومحتاجين فعلاً، ومن يبحث عن الأجر والمثوبة فهناك جمعيات ومؤسسات خيرية يمكنها ايصال الصدقات والتبرعات للمحتاجين فعلاً لها وبشكل سليم وواضح. هل تساعدهم وأنت تعرف أنك على خطأ؟ حيل وقصص عمد المتسولون إلى استخدام طرق وأساليب تبتعد عن العشوائية والفوضى، بل ويغلب عليها التنظيم، وهو ما يؤكد أن خلفهم عصابات وشبكات منظمة تهتم بتوزيعهم في المناطق الإستراتيجية، مع إعطائهم مكافآت نظير ما يفعلونه، باستخدام حيل جديدة تجاوزت الطرق التقليدية من الوقوف على أبواب المساجد والمستشفيات، أو حمل أوراق وصكوك ديون مزورة، إلى قراءة أخبار الوفيات في الصحف والتواصل الهاتفي أو إرسال الرسائل النصية لأهل الميت، الذين يعيشون ظرفاً نفسياً صعباً، يجعلهم أكثر قرباً إلى الصدقة عن فقيدهم، فيختلق المتسولون القصص المأساوية التي تسببت في وقوعهم في الدّين من وفاة عائلهم أو إصابتهم بفاقة أو مصيبة ذهبت بأموالهم ومكتسباتهم، حتى ينالوا القسط الأوفر من الأموال بحجة الأجر والمثوبة للفقيد، بينما واكب الجزء الآخر من المتسولين الثورة المعلوماتية فامتدت أيديهم للتسول إلكترونياً، من خلال إرسال البريد المدعم بأرقام التواصل الهاتفي والحسابات البنكية. متسول أمام أحد المحلات ينتظر أحداً يمد له المال أدوار الفقر واستغل آخرون حرص بعض وسائل الإعلام على إبراز الشرائح المهمشة اجتماعياً بدوافع إنسانية، فمثلوا أدوار الفقر من سكنهم في المنازل الشعبية أو بيوت الطين والخيام، خصوصاً في شهر رمضان المبارك، واستجلبوا الصحفيين واستقطبوا الفضائيات من خلال بعض المقربين منهم لعرض سيناريو "العوز والمسكنة" من كثرة الأبناء وقلة المال وثلاثية الفقر والمرض والدين، حتى ينالوا دعم أصحاب القلوب الرحيمة لهم. أما الجزء الآخر من المتسولين فاستغلوا الأعراف والتقاليد لتكون جسراً للحصول على المال، فاستخدموا حيلاً لإحراج ضحاياهم، لاسيما في القرى ومشارف المدن، حيث يستغلون قدوم غريب لمكانهم وفقاً لما يرويه بعض معلمي الحملات الصيفية، فيقسمون أيماناً مغلظة على تقديم الواجب له، وما أن يقبل الضيف الدعوة حتى يذبحوا له من ماشيتهم، فإذا أكل منها عرض المضيف على الضيف فقره وغلبة الدين وقهر الدائنين وحاجته لمبلغ كبير من المال يتجاوز بكثير قيمة المأدبة المقدمة له. النمر: نمنحهم مكافأة مغرية قسطرة خادعة ومن الحيل الغريبة للمتسولين والمتسولات من أجل كسب عطف الآخرين، سقوط متسول من جنسية عربية يبلغ من العمر (36) عاماً، عمل قسطرة خادعة بوضع كيس مليء بالشاي الأحمر وربطه على بطنه والطرف الآخر إلى داخل ملابسه كأنه كيس دم ويحتاج إلى عملية جراحية في أحد المستشفيات الكبرى بجدة، وبعد القبض عليه تبين أن المتسول يعمل بهذه الطريقة منذ فترة طويلة، كسب من خلالها العديد من المبالغ المالية. وأُلقي القبض على متسول يبلغ من العمر (44) عاماً، يحمل معه مخالفات مرورية ضد نظام ساهر سجلت عليه عندما كان يقود سيارته، وهو الآن لا يعمل ويرغب في تسديدها؛ لكي يتمكن من انجاز معاملات له، وبعد القبض عليه اتضح انه مخالف لنظام الإقامة ولا يحمل هوية، وأن أوراق المخالفات التي يحملها ليست له وإنما لشخص آخر لا يرتبط معه بصله، ومن حيل المتسولين أيضاً القبض على متسولة كانت تجمع المال من أجل أن تكمل تعليم بناتها، بعد أن طلبت إدارة المدرسة سداد المبلغ الذي عليهن لكي يواصلن تعليمهن، وهذه كلها حجج لا أصل لها من الصحة، حيث تبين بعد القبض عليها أن ليس لها أبناء، وأنها تعيش مع بني جلدتها منذ فترة طويلة، وتعمل في التسول أمام المحلات التجارية الكبرى، بل وتختار الأشخاص من خلال سياراتهم الفاخرة، لتقف أمامها لكسب عاطفتهم وجمع المال منهم. د.الجريد: نرسخ فيهم الإتكالية تكاتف الجهات والقصص والادعاءات التي يخلقها المتسولون لا تنتهي، ليبقى التسول ظاهرة تنمو يوماً بعد يوم، وقال "فيصل المالكي": يجب أن لاتقتصر مسؤولية مكافحة التسول على مكاتب مكافحة التسول فقط، بل لابد من تدخل الجهات الأمنية والبحث الجنائي والأمن الوقائي والمرور، فالكل يجب أن يشترك في مكافحة التسول. واتفق "سعد جابر" فيما ذهب إليه "المالكي" حول أهمية تكثيف دور مكتب مكافحة التسول والجهات الأمنية في مكافحة المتسولين وقال: لو نظرنا في البداية إلى جنسيات المتسولين ومواقع تواجدهم، لوجدنا أن الأفارقة يتوزعون بالقرب من الإشارات المرورية بأطراف مكةالمكرمة والطرق المؤدية إلى الحرم المكي الشريف، وهذا التوزيع معتمد من قبلهم، وإن كان هناك بعض المتسولين من الدول العربية فأعدادهم في هذه المواقع منخفضة، أما في المناطق المحيطة بالحرم المكي الشريف فمنحصرة على القادمين من الدول العربية، الذين عادة ما يدعون أنهم فقدوا أموالهم وتذاكر سفرهم، وباتوا بحاجة إلى مغادرة المملكة لكن ظروفهم المادية ضعيفة، مشيراً إلى أنه يرى المتسولات في الأسواق التجارية، وهن الأكثر تواجداً مرتديات العباءة، فيظن المحسن أنهن من أرض المملكة وجار بهن الزمن. أسلوب خاص وأكد "علي سلمان" على أنه إذا كان المتسولات يرتدين العباءة، فإن هناك رجالاً يرتدون الزي السعودي، ومن يستمع لهم يرى أنهم يتحدثون بلهجة أهالي المملكة، وهؤلاء لهم أسلوبهم الخاص، فتارة يدعون أن بطاقة الصراف قد فقدت منهم وهم بحاجة للمال لتعبئة وقود سياراتهم، لكن الواقع يقول غير ذلك تماماً فهم ليسوا مواطنين، بل ولا يمتلكون سيارات إطلاقاً!، لافتاً إلى أن كل ما فعلوه لا يعدوا كونه أسلوب احتيال ونصب هدفه جمع المال. وخالف الأستاذ "طلال العميري" رأيه عما أشار إليه الجميع ورأى أن عملية التسول اليوم باتت تعتمد على أسلوب العصابات المنظمة وليست بشكل فردي، قائلاً: كنت يوماً في جولة مع أسرتي في السوق، وقبل أن أنزل من سيارتي جاء رجل مسن يطلب الصدقة فمنحته ما قسمه الله له ودخلت إلى السوق، مضيفاً أنه بعد دقائق وجد أن من تصدق عليه يركب سيارة خاصة، فيما نزل آخر منها مرتدياً ثياب هزيلة وممزقة، مشيراً إلى أنه قرر أن يبحث عن هذه اللقطة التي رسمت بذاكرته، فعاد إلى السوق في اليوم التالي، ليجد نفس الأشخاص وفي ساعة محددة يتناوبون الأدوار!. بري: تحويل القادرين للعمل طريقة التهريب وأضاف أنه قرر حينها أن يتقصى الحقيقة، وذهب إلى المتسول وقال له: سأمنحك مائة ريال مقابل معرفة لماذا تتسول وكيف تترك مكانك لشخص آخر؟، حينها أخذ في سرد قصته قائلاً: أنه وعدد من جماعته دخلوا المملكة بطريقة التهريب بواسطة عصابة متخصصة في التسول، وتتولى هذه العصابة توفير المعيشة لأسرهم في بلادهم مقابل ما يجمعونه من الأموال، وليس هو وحده المتسول، فمعه عدد من أفراد أسرته، ولكل واحد منهم نسبة محددة من الحصيلة اليومية، مبيناً أنه عرف أن التسول لم يعد حاجة للفقراء وإنما أصبح عملاً منظماً تعمله عصابات متخصصة. وأجمع الكثير من العاملين في مكاتب مكافحة التسول على أن النسبة العظمى من المتسولين هم من الوافدين إلى المملكة، إضافةً إلى وجود منظمات تزج ببعض ذوي الاحتياجات الخاصة إلى تجارة التسول. انتشار مألوف أمام إشارات المرور عدة حملات وأوضح "حاتم بري" -مدير الشؤون الاجتماعية بالمدينةالمنورة- أن مكتب المكافحة عمل عدة حملات اشترك فيها عدة جهات، قُبض خلالها على العديد من المتسولين، مبيناً أنه يتم افرازهم، وتتم دراسة حالات المواطنين منهم، وتحويلهم إلى الجمعيات الخيرية بعد أخذ التعهد عليهم بعدم الاستمرار في التسول، مع إحالة القادرين على العمل لمكتب العمل وتحويل العاجزين إلى دار الرعاية، ذاكراً أنه فيما يتعلق بالوافدين فيتم التعامل معهم من خلال الجهات الأمنية للتأكد من شرعية إقامتهم، إلى جانب بحث أسباب لجوئهم إلى التسول، ثم ترحيل غير النظاميين إلى بلدانهم. وأشار مصدر مطلع ل"الرياض" إلى أن عدد الذين تم القبض عليهم في حملة تمت مطلع شهر رمضان العام المنصرم (250) متسولاً من الجنسين، سجل الذكور خلالها نسبة أكبر بكثير من الإناث، كما بلغت نسبة الوافدين منهم (90%). المجتمع هو السبب وحمل "أسعد النمر" -الأخصائي النفسي- أفراد المجتمع في تزايد ظاهرة التسول، وذلك من خلال تقديمهم المساعدات لأي شخص يدعي أنه محتاج، خصوصاً وهم يشاهدون ملابسهم "الرثة" أو بعض الإعاقات الجسدية، ما يوحي لهم بأنهم فعلاً بحاجة ماسة للمساعدة، غير مستشعرين بأن مثل هذا الفعل يعزز لدى المتسولين الرغبة بالمواصلة، مشيراً إلى أن المساعدة التي يتحصل عليها تعتبر كالمكافأة المغرية المعززة لهذا النمط، ذاكراً أن المتسولين لا يجدون حرجاً عندما يتم رفضهم من شخص وآخر، لمعرفتهم أن الثالث سيقدم لهم المال، وهو ما يعرف بعلم النفس ب"جدولة المعززات"، والتي تكون فورية أو نسبية في كثير من الأحيان، وهو ما يوضح تحملهم وصبرهم على أشعة الشمس الحارقة أو الأجواء شديدة البرودة. متسولة وابنها استوقفا صاحب مركبة لطلب المساعدة أقصر الطرق وأكد على أن المتسول قد يكون محتاجاً بالفعل في فترة من الفترات، ما يجعله يلجأ إلى هذه الطريقة مضطراً ومتحرجاً، إلا أنه يكتشف فيما بعد أنه يستطيع الحصول على مبالغ طائلة تغريه وتجعله يتناسى الإحراج والتعب، رغم استطاعته العمل والكد بداعي أنه يستطيع الكسب بأقصر الطرق وأكثرها راحة، مبيناً أنه لا صحة لما يتناقله الناس حول المتسولين بوصفهم مرضى نفسيين يحتاجون إلى العلاج؛ لكونهم أشخاصا يتخذون من نمط التسول مهنة لهم وبعيدين كل البعد عن أي انعكاس مرضي، إضافةً لعدم وجود إحصائيات دقيقة حول وجود أشخاص عرضوا أنفسهم للإعاقة بقصد التسول واستعطاف الناس. امرأتان وابنائهما يعرضون أنفسهم للخطر بالجلوس على حافة الطريق لأجل التسول ظاهرة مشينة وعلق "د.سعد الجريد" -عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام- على ظاهرة التسول من الناحية الشرعية قائلاً: التسول من الظواهر الاجتماعية المشينة المعبرة عن حالة من الذل، وقد عده الإسلام منكراً يرتكبه المرء حين يرضى بذل نفسه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "من سأل الناس أموالهم تكثراً فإنما يسأل جمراً فليستقلل أو ليستكثر"، وقال عليه الصلاة والسلام: "لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مزعة لحم"، وهذا يدل على أن نظرة الإسلام للمسلم بأن يكون عاملاً منتجاً، ذلك أن سؤال الآخرين عيب على القادرين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها، فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه"، مشيراً إلى أن نظرة المجتمع للمتسول نظرة دونية وإنسان عديم المروءة مستخف به؛ لأنه يرسخ في النفس الاتكالية على الغير، ويقلل من قدر العمل وقيمته، وتأباه النفوس البشرية العزيزة، كما يلبس النفس المهانة العبودية لغير الله، ويرسخ في النفس التخلف ويجرؤها على الكذب. متسول يستعطف المارين بالنوم على أحد الممرات التسول بالسيارة.. فاصل بين المعاناة والكذب! التسول بالسيارة.. أسلوب يتجدد كل ما ضاق "خناق الرقيب" على الرصيف أو باب الخروج من المسجد والأماكن العامة، وربما حين لا يجد المتسول من يقف ليستمع إليه، أو يلتفت إلى معاناته.. السيناريو أن يقترب منك شخص.. طبيعي بمظهره ولغة حديثه، ويبادرك بسؤال اعتاد عليه: "إنت من هالديرة؟"، وربما تلطف أكثر: هل تعرف أحداً في الحي اسمه..؟، والإجابة على أي سؤال لا تنتهي عند هذا الحد، بل تقفز إلى ما هو أبعد؛ حينما يبدأ عرض معاناته، ويطلب منك أن تلتفت إلى سيارته ومن فيها من الزوجة والأولاد؛ ممن لا يجدون قوت يومهم، وهنا يقف بصرك أمام مشهد إنسامي يضطرك أن تخجل، وتبادر، وحين لا تخجل أو ترى في ذلك أمراً مألوفاً اعتدت على مشاهدته، يطلب منك صراحة "طيب حق البنزين ياخوي". الأسلوب المتجدد - وليس الجديد - للتسول بالسيارة يحتاج إلى قدرة في اختيار الأشخاص المستهدفين، حتى لو احتاج ذلك إلى أن يطوف المدينة بأكملها؛ لأن الهدف ليس "مساعدة عابرة"، أو "من وراء زجاج"، ولكنه تسول يغنيك - كما يصفها البعض -؛ فهو يرغب أن يتحدث مع الشخص الداعم، وربما حصل على وسيلة أخرى للتواصل معه، ثم يريد أن يطلعه على وضع عائلته "على الهواء مباشرة"، وتحديداً الهواء الذي يكون بين فاصلين أحدهما مر والآخر كذب!. نبقى في هذا المشهد مندهشين من تكراره، وتزايده، وتواتره في معظم الأوقات، وتزداد دهشتنا أكثر حين نعرف أن من يتاجر بمعاناته، وربما يمارس سلوك النصب والاحتيال اختار أسلوباً ترك أثره في أولاده، ومن حولهم، وربما من يشاهدهم مثل حالهم في التفكير لتطوير هذا الأسلوب مستقبلاً.. ونبقى نحن الهدف والضحية معاً.