«وائل الأمير» شيخ أردني خرج قبل نحو أسبوعين من السجون الإسرائيلية، هو ومجموعة من زملائه المناضلين.. يتحدث «وائل» فور وصوله إلى وطنه ويقول واصفاً ظروف الاعتقال في سجون العدو : (لن أبالغ إن قلت إن وضع السجناء في إسرائيل هو أسوأ من السيئ، وبشكل قد لا يتصوره عقل إنسان).. يقولها وهو يجزّ على أسنانه، وكأنما هو الحقد مجسداً.. وعلى العكس منه، كان ناصر المطيري، الأسير الكويتي والعربي الأول الذي أفرجت عنه الولاياتالمتحدةالأمريكية بعد ثلاث سنوات من الأسر في المعتقل سيئ الذكر «غوانتانامو».. لقد بدا المطيري مرتاحاً وهو يتحدث أمام وفود الإعلام، لكنه لم يستطع إخفاء نبرة الألم عندما بدأ الحديث عن ظروف المعتقل وما يعانيه السجناء هناك.. يقول : (إن أشد ما يعاني منه السجناء هو جلسات التحقيق الطويلة التي تتجاوز في بعض الأحيان ستاً وثلاثين ساعة، يتخللها كثير من الضرب والتعذيب الوحشي.. لقد أجبرت مرة على النوم دون فراش، على «حديدة»، لمدة ثلاثين يوماً متواصلة.. لقد كانت فترة عصيبة فعلاً).. وفي تقرير عن غوانتانامو، نشرته وزارة الدفاع الأمريكية مؤخراً، هناك إلماحة إلى واحد من الأسرى كان يتحدث بحقد صريح لا كناية فيه، حيث يقول وهو من بين يدي آسريه : (إن كل الأميركيين يجب أن يموتوا.. في يوم ما سآتي إلى بيوتكم وأقطع رقابكم مثل الخراف.. وسأستخدم الإنترنت للبحث عن أسمائكم ووجوهكم).. وهو يوجه تهديده هنا إلى المحققين، أو إلى «معذبيه» إن أردنا تحري الدقة.. مثل هؤلاء -وإن كان البِشرُ يطبع ملامح بعضهم -كما ناصر المطيري- هل يمكنهم نسيان أحقادهم التي تكونت وترسبت بكثافة أثناء فترة الاعتقال؟ وهل بمجرد الإفراج ينتهي كل شيء ويصبح الأمر نسياً منسيا؟.. في الرواية المصرية (عمارة يعقوبيان) هناك شخصية الشاب «طه الشاذلي» الذي يمر بتجربة عصيبة، شبيهة بما مر به هؤلاء، حيث يعتقل ويتعرض للتعذيب وللاغتصاب كذلك.. وعند خروجه يكون إنساناً آخر، لا بل شيئاً آخر لا يمت للإنسانية بصلة، ولا إلى «طه الشاذلي» الأول بسبب، إذ سيطرت عليه فكرة الانتقام بشكل رهيب، جعلته لا يفكر سوى بذلك المحقق الذي أمر باغتصابه، والذي لا يعرف منه سوى نبرة صوته، ولا يعرف عنه شيئاً غير ذلك، وبالاستناد إلى الصوت وحده يبدأ رحلة الانتقام مصحوباً بحقده ومقته ويأسه واشمئزازه، وهو بذا يشابه أسير غوانتانامو الذي أعلن بالصراحة كلها عن رغبته في البحث في الشبكة العنكبوتية عن هوية معذبيه، حتى ينتقم منهم.. إنه الحقد.. الحقد الذي تغلغل فيهم حتى بات هو محور حياتهم، لا يستطيعون العيش بدونه، ولا يمكن أن يكون لحياتهم القادمة أي معنى دون أن يضعوه هو وفكرة «الانتقام» نصب أعينهم.. إنه يتأكّلهم، ويتناهشهم، ويفتتهم من الداخل، بشكل يستحيل عليهم الفكاك منه.. ورغم أن هؤلاء الحاقدين اليائسين قد خرجوا من زنازين الأسر، ورغم أنهم أفضل حالاً من أولئك الذين لا يزالون هناك يتعرضون للعذاب ولليأس وتلاشي الأمل في الخروج والعودة من جديد للحياة، رغم أنهم كذلك، أحرار الآن، إلا أنهم استسلموا للحقد ونصبوه موجهاً لحياتهم القادمة، وكأنما الأمر حتمي.. أن تدخل السجن، فيجب أن تخرج منه حاقداً ناقماً على كل شيء.. هكذا بمعادلة بسيطة يتحدد كل شيء ويصبح الأمر بمثابة المسلّم الذي لا يقبل التشكيك.. الحقد يغلف طباعهم ويقودهم -حتماً- نحو محطة الانتقام.. لكن هذا الحقد، الحتمي، الأصيل، هناك من يسعى إلى تفكيكه وإقصائه.. فهذا الروائي المغربي البارع «الطاهر بن جلّون» يتناول في روايته المؤلمة (تلك العتمة الباهرة) موضوع الحقد، وقصة شاب حكم عليه بالموت البطيء داخل زنزانة ضيقة في السجن المغربي الشهير «تزمامارت».. الرواية أشبه بالمذكرات يكتبها هذا السجين عن حقيقة الألم والمعاناة التي يشعر بها، هو الذي لا أمل له بالخروج.. وفي ثنايا مذكراته، يحكي هذا الشاب قصته مع «الحقد» ومحاولاته العديدة للتخلص منه.. هو يقول : (اللهم أبعد عني الحقد، تلك النزعة المدمرة، ذلك السم الذي يدمر القلب والكبد.. لا تجعلني أحل الثأر في بيوت أخرى، في ضمائر أخرى.. أعطني القدرة على أن أنسى، أن أستنكر، أن أرفض الرد على الحقد بالحقد.. اجعلني في مكان آخر، وساعدني على أن أخرج لطفاً من جسدي هذا الذي ما عاد يشبه جسداً.. بل رزمة عظام مشوهة).. وهكذا.. نظل طوال الرواية نتتبع بالأسى والألم والإعجاب تأملات الشاب ذات النزعة الصوفية، ومحاولاته الحثيثة نحو بلوغ الكمال الروحي، والصفاء، والتصالح مع المجتمع ومع من ظلموه ومع نفسه قبل كل شيء.. هي رحلة آسرة سردها «الطاهر بن جلّون» بلغة شعرية فتانة جعلت من هذه الرواية إحدى أهم الإضافات إلى ما يعرف بأدب السجون.. في السينما، هناك أيضاً اتجاه خاص بالسجون، وهو امتداد طبيعي لعالم الرواية، وهذه الاتجاه يحوي كثيراً من الأفلام التي تناولت السجن ومآسيه بأشكال وطرق مختلفة، فمثلاً في الفيلم الشهير (إصلاحية الشوشانك - The Shawshank Redemption) هناك صراع عذب وساحر مع فكرة «الأمل»، بينما يظهر السجن في الفيلمين الرائعين (المصارع - The Hurricane) وَ(مالكوم إكس - Malcolm X) بمثابة نقطة التحول في حياة بطل الفيلمين النجم «دنزل واشنطون» حيث يتعلم القانون ويصير كاتباً في الأول، بينما يتحول في الثاني من المسيحية إلى الإسلام ليصبح من أشهر الدعاة الإسلاميين في أمريكا.. أما فيما يتعلق بالحقد، الذي هو العامل المشترك في الأمثلة السابقة، فهو يبدو واضحاً بشدة في الفيلم الشهير (قطار منتصف الليل - Midnight Express) الذي يعتبر من أهم أفلام السجون على الإطلاق، وهو يحكي قصة شاب أمريكي يعتقل في اسطنبول، في تركيا بتهمة تهريب الحشيش، ليدخل في دوامة لا تنتهي من الحيف والظلم من قبل الأتراك.. هو للمخرج المعروف «ألان باركر»، وقد نال ستة ترشيحات للأوسكار، حاز منها اثنين، أفضل سيناريو تحصل عليه الشهير «أوليفر ستون»، وأفضل موسيقى للموسيقار الإيطالي «جورجيو موردير» الذي أبدع مقطوعة ألبست الفيلم لباساً شاعرياً فاتناً.. والفيلم، بعيداً عن مسألة «الحقد»، يتعرض بالسلب للأتراك والعرب وللمسلمين عموماً، حيث يعرضهم بشكل بائس وقذر، وبإيحاءات تكرّس من بشاعتهم المتخيلة، وهو بذلك يسير وفق التصور الاستشراقي عن الشرق والإسلام والذي رسمه المستشرقون الأوائل، ولعل من المفارقات أن ينتج الفيلم في سنة 1978 وهي ذات السنة التي نشر فيها كتاب (الاستشراق) للمفكر العربي إدوارد سعيد والذي فكك فيه الخطاب الاستشراقي وأبان كم هي واهية فكرة «الشرق» وكم هو مصطنع هذا الشرق الذي لا يمت -في واقع الحال- بأي صلة إلى الشرق الحقيقي المعاش.. على أي حال، وعودة إلى فكرة «الحقد»، فالفيلم هنا يعرضها بأوضح صورة وبشكل يجعلك تفهم كيف سيطرت فكرة الانتقام على أولئك السجناء.. هنا، وبسبب شحنة ضئيلة من الحشيش، يتم الحكم على الشاب الأمريكي بالسجن ثلاث سنوات، وخلالها يتعرض للتعذيب، ويتمرّغ في قذارة الأتراك، لكنه يصبر حتى إذ لم يبق سوى ثلاثة وخمسين يوماً على انتهاء محكوميته، يتم إبلاغه بأنه سيبقى في السجن ثلاثين سنة قادمة.. وهنا طفح كيله، وانفجر انفجاراً مزلزلاً، أوضح إلى أي مدى تغلغل فيه الحقد.. هو يصرخ في وجه الأتراك قائلاً : (لقد سامح المسيح الخطاة، لكني أعجز عن ذلك.. إني أكرهكم، أكره أمتكم، وأكره شعبكم.. تباً لكم أيها القذرون.. أيها الخنازير).. ومع حقد هذا الأمريكي الذي تولد في سجون «الشرق»، ومع أحقاد السجناء العرب في غوانتانامو، وأحقاد من تم تعذيبهم في «أبو غريب»، لا يزال الإنسان، كل الإنسان، الشرقي والغربي، أسيراً لفكرة «الحقد»، يلوكها صباح مساء، يتحين فرصة الانتقام والانفجار العظيم.. يعيش هاجس الفكرة دون أن يمنح نفسه فرصة إدراك ما يفعل.. ودون أن يدرك أن هذا ليس الطريق الصحيح.. ومن أجل أن يشفى من هذا الداء الفتاك.. ينبغي عليه أن يعرج على رواية (تلك العتمة الباهرة).. ففيها العلاج، ومنها الشفاء بإذن الله..