يستعين كثير من قادة وزعماء العالم بجيش كبير من المختصين في الإعلام الجماهيري لكتابة خطاباتهم المنبرية، واختيار طبقات الصوت والحركة، وضبط التنفس إلى ما هنالك من التقنيات.. بغية الوصول إلى أفضل طريقة لامتلاك قلوب الناس والإمساك بعواطفهم، وتجييشها في الطريق الذي يريده لها القائد أو الزعيم.. أو هكذا يأملون على الأقل. "فيدل كاسترو" - الزعيم الكوبي - الأكثر شهرة، كان يخطب بالساعات، وكانت معظم خطبه تتركز على البعد الحماسي، وقد وقف ذات يوم على أحد المنابر ليلقي واحدا من خطاباته.. وكان مقرراً له عشر دقائق.. غير أنه اكتشف وجود مصباح على منبر الخطابة يضيء باللون الأحمر متى انتهت تلك الدقائق العشر.. فما كان منه وقبل أن يبدأ إلا أن أخرج منديلاً من جيب بزته العسكرية وغطى به المصباح ليمضي في خطابه لما زاد عن الساعتين.. كان الرجل فيما يبدو يعتقد أن تلك القناعات التي يتيح لنفسه فرصة شرحها بغير طريقة.. كفيلة بجر إيمان الناس بما يقوله، وبالتالي مشاركته تلك القناعات. الرئيس "عبدالناصر" استخدم الخط الحماسي ذاته الذي يلهب عواطف مستمعيه، ويستجمع ألبابهم، موظفاً البعد القومي في هذا السبيل.. وحتى في خطاب التنحي الشهير الذي ملأه الزعيم المصري بنغمة الانكسار، واستعداده لتحمل المسؤولية حتى عن غيره من أركان حكمه، واستخدم فيه تلك المفردات التي تعبر عن الانتقال التنازلي من رأس هرم السلطة إلى رقم من أرقام الجماهير، بما يستدمع العيون والقلوب.. ما جعله يحقق النتيجة العكسية المطلوبة برفض التنحي بقوة اندفاع عواطف الجماهير. الرئيس "السادات" الذي وظف الفصاحة إلى جانب الحركة، كإشعال "الغليون" أثناء الخطبة، أو سحب الآهات الطويلة لتحفيز المستمعين للكلمة التالية.. مستفيدا من قدراته في تسجيل المواقف المفاجئة.. وتوقع الجمهور شيئا ما.. كل هذا من أجل اختطاف المسامع. لم يكن «زعيم منابر» أو «خطيب شعارات».. هو يتحدث لنا بسجيته ونحبه أكثر وكثيرون سواهم.. بعضهم يتلقى دروساً على أيدي متخصصين في فن الإلقاء.. للوصول إلى الناس.. ودائماً الوسيلة هي المنبر.. سواء كانت منصة خطابة، أو شاشة تليفزيون أو بثا إذاعيا. الملك عبدالله.. لم يقدم نفسه أبداً كرجل منابر، ومع هذا فقد استطاع وخلال فترة وجيزة جداً.. أن يختطف الزعامة ليكون أحد أبرز عشرة رجال مؤثرين على مستوى العالم.. لا بل استطاع أن يأخذ مفاتيح قلوب مواطنيه، ويدخل إليها ويغلق على نفسه من الداخل.. وهنا يبدو السؤال السهل الصعب: كيف استطاع هذا الرجل أن يؤسس لشخصه كل هذا الحجم من الزعامة الوارفة.. دون منبر الخطابة أو الإعلام؟ أو لنعد صياغة السؤال على هذا النحو: كيف وصل وبهذه السرعة إلى قلوب مواطنيه طالما أنه لم يستخدم المنبر.. بل لعله كان ولا يزال أكثر الزاهدين فيه؟ فيما يلي سنحاول استقراء الإجابة التي لن ندعي أنها نتيجة دراسة متخصصة.. بقدر ما هي استنتاج مبني على الملاحظة، وما استطعنا التقاطه من أفواه الناس: عبدالله بن عبدالعزيز.. قدم نفسه على سجيتها كرجل مبادئ وقيم، وفق قاعدة (كن نفسك) فكان نفسه حقاً، مثلما كان نسيج وحده في أسلوب ورمزية زعامته، استلهم عاطفة الأبوة بأسمى معانيها بما يتطابق مع تكوينه النفسي كأب في المقام الأول، بكل ما في هذه العاطفة من النقاء والصدق والبراءة والشفافية، لأنه يدرك أن عمله الذي يتابعه بنفسه خطوة بخطوة وثانية بثانية، هو ما سيحمل كل رسائله إلى مواطنيه كأب وكقدوة. «أبو متعب» يساعد مسناً على النهوض بعد أن قضى له حاجته «إرشيف الرياض» لذلك لم يعبأ كيف يكون أمام المنبر.. ولا كيف يكون خلفه؟.. ولا كيف يكون أمام الكاميرا، أو كيف يكون خلفها؟.. ولا كيف يكون في اجتماع رسمي بروتوكولي، أو كيف يكون في مجلسه؟ لأنه في كل الأحوال (هو.. هو) شخصية واحدة.. في الضوء وفي العتمة، في مواقف رجل الدولة، وفي مواقف الإنسان العادي، في المباحثات السياسية، وفي الأحاديث العامة.. (هو.. هو) الذي يعرفه الساسة الذين يلتقيهم في الأمور الجسام كزعيم ورجل دولة، ويعرفه المواطن كأب لا مكان لجغرافيا المسافات بينه وبين أبنائه ومواطنيه. قد لا نحتاج إلى كل هذا القرب الحسي لمعرفة ما نريد.. يكفي أن نستجمع بعض مشاهداتنا له، وبعض تعليقاته، وكلماته النادرة.. لنصل إلى هذه الحقيقة التي أحاطتها العفوية الصافية مثل مياه نبع.. لندرك باليقين أننا أمام رجل دانت له الزعامة بأدوات مختلفة.. أدوات لا تعتمد على حيل المنابر، وديماغوجيتها، ولا على التزين للكاميرات والتجمل لما يراه الناس، وهنا كان العنوان الأبرز والأكثر حضوراً.. هو العفوية والصدق ونقاء السريرة. العفوية حينما نستمع للملك عبدالله يشعر كل منا أنه يخاطبه بمفرده.. قد لا يختلف في هذا التقدير المثقف مع عامل المصنع أو الفلاح.. من أين جاء هذا الإحساس؟ لنبتعد عن لغة التحليل لنستدعي بعض الشواهد (كنماذج فقط) والتي يعرفها معظم الناس.. فهي الأكثر بلاغة للإجابة على مثل هذا السؤال. المشهد الأول في حفل جماهيري كبير في منطقة القصيم بمناسبة زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - للمنطقة.. كان الأمير عبدالله (وقتها) بمعية الملك، وفي صالة الحفل الجماهيري الحاشد.. كان الأمير يجلس إلى جانب الملك في الصفوف الأمامية.. أمام عدسات التليفزيون وكاميرات الصحافة.. عندها حطت حمامة بيضاء بالقرب من كرسي الأمير.. وفي مشهد لا مقياس له في هذه الدنيا سوى مقياس العفوية، خاتلها الأمير واصطادها بحركة خاطفة لفتت أنظار الجميع واستدعت ابتساماتهم بمن فيهم الملك.. فما كان من الأمير إلا أن وضعها بين يديه ثم مسح على ظهرها وأطلقها في الهواء. كانت حركة عفوية بكل المقاييس.. لكنها حتى وإن لم يرد هو ذلك حملت رسالتين ضمنيتين في وقت واحد.. الأولى: صورة الصقار في شخصيته بكل ما تحمله من معاني الإباء والشمم وقوة الشكيمة، والثانية: صورة رجل السلام الذي يمسح على ظهر الحمامة الرمز العالمي للسلام ثم يرسلها في الفضاء حرة طليقة. .. وهنا يرتب عقال طفل تشرف بإلقاء قصيدة بين يديه خلال تسلمه جائزة الملك خالد للإنجاز الوطني هنا اجتمعت صورة ذهنية لكل من تسنى له رؤية ذلك المشهد.. ربطت ما بين معاني الإباء ومعاني السلام في مشهد واحد ودون استخدام أي كلمة. وهي حركة لا يمكن أن يفعلها من يضرب حساباً لعدسة كاميرا أو لأعين حشد من الناس تراقب كل حركاته وسكناته.. إلا من اعتاد أن يكون أمام الكاميرات والعيون كما هو خلفهما. المشهد الثاني في حفل افتتاح (كاوست) جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية في منطقة ثول في جدة، وأثناء إلقاء خطابه.. جاء على ذكر اسم الجامعة، ولأنه يأبى إلا أن يتصاغر أمام مواطنيه، فقد أعرض عن وصف نفسه بالملك فقال: (جامعة عبدالله للعلوم والتقنية)، وهذا التصاغر ينم عن تواضع جم، لا يتقنه إلا الكبار الذين هم في حقيقة الأمر أكبر من مواقعهم وصفاتهم الوظيفية. المشهد الثالث أثناء توعكه شفاه الله، وفي سابقة قل حدوثها على مستوى العالم.. حيث يخفي الرؤساء والزعماء عادة أمراضهم وفقاً لقاعدة في الفكر السياسي.. لا تزال سارية المفعول.. على اعتبار أن اعتلال صحة الزعيم إنما هو اعتلال لحكمه.. خرج الملك عبدالله للناس، واختار أن يبوح لهم بما يشكو منه بنفس اللغة التي يستخدمها أحدنا مع أهل بيته الأقربين.. قال وبكل الشفافية: (إخواني أشكركم وأرجو لكم التوفيق، وأشكر كل فرد من أفراد الشعب السعودي، وكل من سأل عني، ولله الحمد أنا بخير وبصحة.. دام إنكم بخير..أنا بخير، إخواني: أنا جتني هذه الوعكة.. والله ما أدري وشي؟، ناس يقولون انزلاق، وناس يقولون عرق النساء، والنساء ما أشوف منهم إلا كل خير، وها العرق وين جانا منه؟..هذا عرق فاسد، ولكن إن شاء الله ما تشوفون إلا كل خير. وأرجو أنكم تسامحوني لأني ما قمت وصافحتكم). في هذه الكلمات الأبوية البسيطة والعفوية والمعبرة.. حقق الملك عبدالله - مرة أخرى حتى وإن لم يقصد أو يرد - حقق أكثر من بعد: البعد الأول: اختراق تلك القاعدة بمصارحة مواطنيه بما يشكو منه.. بخلاف القاعدة السائدة كما قلنا قبل قليل، ما وحد قلوب كل مواطنيه نتيجة تثمينهم لهذه الشفافية والمصداقية للتضرع والدعاء لله طلبا لشفائه وقيامه بالسلامة. البعد الثاني: كسر الحاجز الوهمي ما بين رأس القيادة والمواطن.. بحيث لم يعد هنالك مجال للتكهنات والإشاعات. البعد الثالث: في مسألة تشخيص الحالة المرضية، ورفضه تسميتها بعرق النساء، وهي التسمية الشعبية الشائعة.. حمل رسالة ضمنية لمكانة المرأة التي هي الأم والأخت والزوجة في ذهن الملك، وربطها بالخير. وهذه الأبعاد الإيجابية التي وفرتها عفوية الملك، ما كانت لتتحقق لو تكاتف كل علماء النفس، والخطباء وصناع جس النبض الجماهيري.. بمثل هذا الأثر الكبير الذي أنجزته العفوية والصدق والمباشرة. طفل يطبع قبلة حب على جبين القائد المشهد الرابع في أحد لقاءته مع العلماء وكبار المسؤولين وجمعاً من الموطنين.. التقط أطراف الحديث بتواضع الكبار.. الصادقين.. ليس مع نفسه - حفظه الله - فقط، وإنما مع مواطنيه.. ويطلب منهم أن يتخلوا عن وصفه بلقب "ملك الإنسانية" و"ملك القلوب"، مبرراً أن المُلك لله، وهو الملك وحده سبحانه، وهو هنا يرسخ فينا معاني التوحيد الخالص، ويدفعنا إلى شكر نعم الله علينا، ويمنحنا مع ذلك كله حبه الصادق حين يستشعر محبة شعبه، ووقوفهم إلى جانبه، دعاء ووفاء. المشهد الخامس في افتتاح جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن، وفي تلك القاعة الفارهة التي كانت تكتظ بالآلاف من الرجال والنساء.. الذين توافدوا لحضور افتتاح جامعة ليست كالجامعات، لا في حجمها ولا في ضخامتها ولا في كلياتها وتخصصاتها، ولا في تجهيزاتها الاستثنائية، ولا أيضاً في مدة تنفيذها.. حيث وعد - حفظه الله - قبل أقل من سنتين ونصف أن يكون للفتاة السعودية صرح علمي تفاخر فيه بين الأمم، وفعلاً كان ما وعد، وقبل التوقيت المتفق عليه. التصرف المألوف في مثل هذه الحالة وأمام إنجاز عملاق بلغت تكاليفه أكثر من عشرين مليار ريال، وساهمت في تنفيذه أكثر من ألف شركة.. واتصل فيه الليل مع النهار في عمل متواصل لانجازه، أن يقف صاحب هذا الانجاز، ويتحدث للناس ويشير إلى أنه قد أنجز لهم وعده، وهذا أقل حق مشروع له.. لكن عبدالله بن عبدالعزيز، ولأنه رجل مختلف، وبعدما أحس بأنه أنفق أكثر من ساعة في التجول في أرجاء تلك المدينة الجامعية العملاقة.. خشي أن يكون سأم الانتظار قد تسلل لنفوس الحضور.. فاختار أن يتبسط معهم في اعتذارية بالغة التهذيب والصفاء.. فاقترب من المايكرفون وقال: (بغينا ما نجيكم.. مسكونا.. ساعة وزود شوي.. الله يحط فيها البركة - يشير إلى الجامعة) هكذا!!.. عندئذ التهبت الأكف بالتصفيق، وأطلقت النساء الزغاريد! رد الفعل الجماهيري هذا، وبهذه الصورة المتألقة.. جاء نتيجة لهذا التواضع الجم الذي بدا من الملك، وهو يعتذر لمواطنيه ومواطناته عن تأخره عليهم في حفل الافتتاح، وكنتيجة لذلك التسامي في قيمة الكرم الكبرى التي جعلته يتعفف عن الحديث عن انجازه ويكتفي بطلب البركة من الله، وكأنه يريد أن يقول: لندع الأشياء تتحدث عن نفسها، وهذا ما التقطه الحضور، والمشاهدون خلف الشاشات، وحظي بتقديرهم. الملك في لقطة جماعية مع مجموعة من الأطفال السياميين وأسرهم المشهد السادس هذه المشاهد العفوية تقودنا بالنتيجة لفهم واستيعاب هذا القدر الكبير من الثقة التي يحظى بها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - حفظه الله -.. ليس في أوساط شعبه وحسب، وإنما على الصعيد العربي والإسلامي والدولي، ففي قمة الكويت الاقتصادية - مثلا -، كانت غزة تنزف دما إثر العدوان الإسرائيلي العام 2009م، وكانت أخبار الموت والدمار الذي تحدثه الآلة العسكرية الإسرائيلية تتسلل إلى أروقة المؤتمرين عبر مساعديهم، لكن حجم الخلافات العربية.. العربية كان أكبر من أن تطرح قضية غزة على الطاولة من غير مساومة على المواقف، وحده عبدالله بن عبدالعزيز.. الذي جاء للمؤتمر بعقله وقلبه وعفويته.. تحسس خطورة الموقف، وعندما بلغه دور الحديث، فإذا به يقلب الطاولة في وجوه الجميع، ويعيدهم ببضع كلمات نابعة من قلب أبيض إلى مسؤولياتهم الوطنية والقومية، لتنقشع سحابة الوجوم عن الوجوه التي استبدت بها الدهشة من قدرة هذا الرجل على التسامي فوق الجراح، ليتبدل جو القاعة مع حرارة التصفيق إلى بسمات مصالحة، توشك أن تطوي صفحة الأمس برمتها، لتفتح صفحة جديدة بمثل نقاء وبياض من أعاد إليها الرشد في تلك المرحلة العصيبة. لم يستخدم الملك عبدالله خطبة بونابارتية؛ لأنه كان يمتلك البديل الكاريزمي قولاً وعملاً، والذي كان له مفعول السحر.. فطلب المصالحة وتناسي الخلافات، والسمو فوق الصغائر، وكان هو رغم ما اكتوى به من بعض الأشقاء.. أول الذاهبين إليها بقلب مفتوح. ولو لم تأت هذه البادرة منه - حفظه الله -، وبتلك الطريقة.. لما كان لها كل ذلك الصدى، ما جعلها تشكل في أذهان مستمعيه أعلى درجات السمو في شجاعة التسامح، وهي شجاعة لا تستوي إلا لمن يملك ما يكفي ويزيد من التصالح مع الذات، ولمن هو أكبر بتواضعه من موقعه، وهذا ما جعل من ذلك الموقف بمثابة الأرض الجديدة القابلة للاستزراع من جديد.. الملك عبدالله ينثر الورود على مستقبليه من الأطفال ويبادلهم مشاعر الحب