العاني لغة من العنوة، وهو الأخذ عنوة وقهراً أو استسلاماً، إما أخذاً بقوة السلاح أو الاقناع خضوعاً لقيم مرعية وضوابط اجتماعية متفق عليها من قبل المجتمع المعني بالعاني، ولقيم الأعراف الاجتماعية سلطة لا تقاوم، لوقوف المجتمع معززاً وداعماً لتطبيقها فهو الذي اختارها وأقرها لتنظيم شؤونه وحماية مكتسباته. والمجتمع البدوي يعرف تبعات وأبعاد العاني، حيث تحكمه ولاته ورعاته، واستسلام أطرافه والتزاماتهم، فهو من أساليب الضبط الاجتماعي في مجتمع يفتقد إلى نظم الدولة المدنية، لذا ساد هذا النظام إبان الفوضى واضطراب الأمن في بلادنا فيما قبل وحدتها الوطنية، فكان الحل البديل للحيلولة دون التعدي والاعتداء، ولرد الحقوق المنتهكة إلى أصحابها، وقد استمر فترة طويلة سائداً في بعض المجتمعات المحلية التي لم تتعود على النظام الجديد أو التي كانت ترى في الشكوى إلى السلطات الإدارية ضعفاً، حتى تعود الناس على الأخذ بالأنظمة الحديثة لتحقيق العدالة، غير أنه على المستوى الشعبي ظل العاني سائداً دفعاً للعتاب و"الشرهة" من استدعاء الخصوم للشرطة والتشهير بهم أو سجنهم، واهمال سنن الأجداد لحل المشاكل الخلافية في الإطار المعتاد دون التعريض بأبناء القبائل بين موظفين لا يحسنون غير تطبيق النظام، دون مراعاة لما يتمتع به ذوو الشأن في محيطهم الاجتماعي. وأذكر أن شخصيات معروفة في جرول والعتيبية في مكةالمكرمة كانوا كثيراً ما يتدخلون لإنهاء قضايا معروضة في مركز الشرطة بجرول زمن مديره العقيد عبدالحميد زمزمي الذي كان متفهماً للدور الذي يقوم به أولئك المصلحون فيساهمون بتدخلهم بمساعدة الشرطة لانهاء القضايا انهاء مرضيا لا يبخس الحقوق ولا يؤثر على دور الشرطة بقدر ما يذلل التعقيدات والمشكلات. وعلى صعيد الصداقة انتقل العاني إلى المجتمع الحضري في قضايا العتاب والمشارهات الاخوانية فيحل الخلاف بإسناد العاني إلى ذوي الشأن من الأصدقاء الذين يحسنون النظر في الخلافات ويعدلون في أحكامهم فلا تتجاوز الاعتذار والاحتفال الذي يستضيفه المدان، وما زال كثير من الناس يصلحون خلافاتهم بعيداً عن الشرطة والمحاكم. وللعاني عند القبائل مهلة محددة قابلة للتجديد والقصر ما توصلت الأطراف المعنية من الخصوم والمصلحين إلى انهاء الخلاف، والتمديد ما احتاجوا إلى مزيد من النظر والوفاق أو احتاج الخصوم إلى مشاورات وجمع التعويضات، ويتوقف ذلك على حجم الخلاف. وقد عرف بعضهم العاني بأنه مهلة أو هدنة، والواقع ان ذلك من ضوابط العاني، لأن المهلة يكف فيها الخصوم عن الاعتداء والانتقام وفق التزامات صارمة وموثقة، وأنها تفسح المجال لأهل النظر للتواصل مع الخصوم وتقريب وجهات النظر للفصل، وقيام الخصوم بتحصيل التعويضات، وفي إطالة مدة العاني امتصاص للاحقاد وتفكير في الدوافع التي سببت الخلاف. وتختلف مدة العاني من قبيلة لأخرى، وحسب درجات أهمية الخلاف، وتمكن الخصوم من الوفاء بالتزاماتهم، وحددت بعض القبائل مدة العاني بسنة وشهرين وأحد عشر يوماً وثلث اليوم كما ورد عند أيوب صبري في مرآة الجزيرة العربية. ولسنا بمجال الحديث عن العاني تفصيلاً فذلك أكبر من مساحة هذا المقال الذي يستهدف نصاً أدبياً طريفاً عارضه رد دفاعي في كل منهما لمسات أدبية رأيت استئناس القارئ بما جاء فيهما. يجمع بين جهينة وحرب جوار استدعى مراعاة حسن الجوار وتنظيم العلاقة بين أبناء القبيلتين لتحقيق جو من العلاقات الطيبة، ويحتل العاني بينهما محلا ومكانة عالية لاستخدامه في حل المشكلات التي تحدث بين القبيلتين، وشاعر جهينة انتجع في ديار الأحامدة من حرب في فصل الربيع الذي لم يَجُدْ في أرض جهينة ذلك العام، إلا أن الشاعر تعرض لاعتداء ذئب في منتجعه فر بإحدى أغنامه فانتهز الشاعر هذه الفرصة لشكوى الذيب للأحامدة، عبر قصيدة دعابية، مهذبة المقدمة، محددة الأماكن، مدعمة بالشهود، معززة بالمبالغة، ومختتمة بالتقدير وطلب الإنصاف من هذا الذئب المنتمي إلى ذمارهم، وإليكم النص كما وردنا: يا راكباً من عندنا جول غزلان مكلفات اكوارهن والأواني هن عشر واللي فوقهن عشر شيبان الكل منهم شانهم مثل شاني الخمس منهن قبَّلن حشو الارسان باغات شيخ منزله في البيان اللي مضى مشبِّع عياله وشبعان مشبِّع عياله من هذيك المثاني وحوله من القبة صواريم عقبان تقسموها قاضبين المكانِ وخمس منهن قبَّلن ريع "ذفران" باغات شيخ للدول سعلواني شيخ الشيوخ وشيخ بدو وحضران بالسيف والبندق وقول اللسانِ كان ذلك منذ أكثر من مائة وخمسين عاماً، حيث كانت الركاب وسيلة الاتصال، وحين كانت العناية بها من علامات الاحترام والتقدير لمن يقصدون زيارته، وقد حدد مسار الركاب الشيخ المستهدف، وما يميزه عمن سواه، بما لم يبخس حق الآخر، وقد وصف كلا منهما بما يليق به من السمات والأوصاف. ثم يصف المسالك التي عبرها الذيب في طريق الاعتداء: وزم "العنيق" مهذ فر الذيب سرحان والغالب انه منعتينه مكاني ومعي اربعة كهانة الهرج ضمان إنه من "الفقرة" عوى وانتصاني وفي خشم قود خال نيرة وضيان وقال: احمد الله جاب رزقه رشاني ويوم جاهم ضافهم ربع "وفيان" فكَّوا دبشهم بالحصا والردانِ وعدا على ربع "ثقافي" و"ذبيان" عدوه باللي طُعمها في الخزانِ وعطا من "البلدة" إلى ريع "دخان" واشرف على الهضبة إلى أن لقاني واكل من المعزى وعوّد على الضان تسعين اكلها من جياد السمان وانا اجنبي في ديار الاجناب سكان في ديار حرب مجودين العواني هذه الرحلة الطويلة التي قطعها الذيب انتهت باعتدائه على أغنام جار مكفوف اليد عن الدفاع عن أملاكه لأنه ضيف في ديار حرب وسباعها، ومن حقه أن يجد الحماية منهم أو دفع الضرر الذي لحقه، وذلك وفق القانون الذي تضمنه البيت التالي: الاجنبي في الدار الى جاته مغيرة يلد في الجنحان ويكفف يديه وبالطبع هذا لا ينطبق على اعتداءات السباع ولكن المسألة دعابة من الشاعر، وليس من المعقول ان يفترس الذيب تسعين من الماشية بعد مسيرة ليلة كاملة، وكأن ليس في المضارب سكان يطردون الذيب، ولكنها مبالغة الشعراء التي يتطلبها الموقف الشعري الدعابي، وفي الختام يحمل مسؤولية حمايته قبيلة حرب. على أية حال تلقى شعراء الاحامدة هذه القصيدة وأجابوا عنها بما يلي: الليلة امسينا كنين الاعلام ما احد لفانا بالخبر من مكانِ وانا الذي قلبى معنّى وشقيان واللى شِقي بالقيل اظنه معاني يا هجن مردوفات من زين الالحان مزينات اكوارهن والاواني كلٍّ عليها سعر تسعين دَنّان هذا مكلف بالحرير اليماني ويا راكب اللي مثلهن جول غزلان بعشرين طابق شانهم مثل شاني بين اليمن والغرب الى نقرة الشام والشرق واقطاره وخبت التهامي وامسى على مثل الاهلات الاحجان نش الحشا ما باقي الاّ السنامي وعلومهن لشيوخ وقضاة وحقّان بابين ذي كافّات كل المعاني هذه مقدمات الرد وعناية الشيوخ واهتمامهم وتكريمهم للشاعر، مدعومة بالسعي في بقاع الأرض حتى لقيت الركاب من سفرها نصبا، فعادت كالأهلة عجافاً وما زال سنامها شامخا يمدها بالقوة، كل ذلك السعي بحثا عن حق للشاعر جزاء اعتداء الذيب يدين قبيلة حرب، فلم يجدوا مدخلا للجهني يدينهم لأن: الاجنبي لا صار في ديار الاجناب يبغى نعلّق له على الذيب عانى عيوا عليها لا يحطون الاختام وقالوا عليها ما يتم التمامِ الساير اللى بين حرب وجهنان ماهم عليه اول عليهم ذوانِ إذاً كل تلك الامم التي استُطلعت الرأي لم تجد على حرب حق المطالبة لشاعر جهينة يؤكد ذلك الاقرار بأن ما كان عليه أجداد القبيلتين لما يزل سائداً وهو لا يدين حرب، ثم يوجهون الخطاب للشاعر: قولوا ألا ياريد نساع الاجمار الصدق خير من العلوم السمان ذيب "العناق" وذيب "حورات" و"رزام" وما علّق "الفقرة" وذاك المكانِ ما يشتكن طول الليالي والايام ولا تاكل الا من رمي العظام ولى دبلوا دبّوا ثنايا وجدعان بكبارهم وصغارهم بالتمام كلٍّ يلجلج بالغطاريف فرحان ضاري على الساقة بطش اللغام ما هو كما اللى ذيبهم دوم جوعان ما ياكل الاّ من البهم والهلام كما انهم دوما صحيبا وصحبان لو شال شاة العيد ما له مشانى بعد الدفاع عن ذيبهم الذي يطعم من بقايا أطعمة الضيوف وهي مبالغة الدفاع لقاء مبالغة الشكوى، ولن تصدق الدعوى إلا إذا صدق القول بإمكان حمل جبل "ورقان" وانزاله على قمة جبل "العناق" أو نقل جبل "رضوى" وعبور البحر به: إلا يقع تنزع لنا ضلع "ورقان" وتنزله بين الثنين الاخوان ننزع لكم "رضوى" على فوق الامتان ونعبر بها موج البحور بحنان وان كان أحد مشرك به القول زعلان وساه عند اهل العلوم الرزان وإذا وجد أحد له رأى آخر، فالرفع للعرض على القضاة الثقات لينصفوا حرب من ذنب اقترفه ذيب من طبيعة الحياة الفطرية له أن يهاجم القطعان غير المحصنة بالحماية. هذا دفاع شعراء أما زعيما القبيلة فقد رفدا الشاعر الذي ترفق في مخاطبتهم بأسلوب أدبي. وجبلا "ورقان" والعناقين "اللذان أشار لهما بالأخوين هما من جبال ديار حرب ورضوى من جبال جهينة. وإذا بدا اختلاف في القافية فإن الاستعجال في الرد والنظر إلى الاشتراك في تنغيم النون والميم لا يعد غريبا في مثل هذا الشعر الذي تغلب عليه الطرافة والاخوانية.