موسم الزيجات على الأبواب.. أو على مرمى حجر منا، إذ ستشتعل الفنادق وقصور الأفراح التي تم حجزها قبل ما لا يقل عن عام.. بمجرد أن تغلق آخر ورقة امتحان، وكأنه لا يصح أن تتم هذه الزيجات إلاّ في إجازة الصيف، حيث ترتفع أسعار القاعات و"الطقاقات"، و"الكوشات"، ومطابخ "المفطحات"، ومتاجر "الحلويات".. إلى أرقام خيالية؛ نتيجة زيادة الطلب وقلة العرض، كما أن المطابع الأهلية تدور تروسها الآن لطباعة الدعوات على الكروت المذهبة والمزركشة.. والصيغ هي ذاتها: (ندعوكم لحضور زواج ابننا الشاب على كريمة...)، ودائماً الابن هو الشاب والبنت هي الكريمة.. ما علينا.. هذه شكلية لا قيمة لها.. لكن ما ليس بشكلية هو أن الناس اتفقوا ضمنياً، ولا أدري هل هي مصادفة أم أنه اتفاق فعلي.. على تسمية هذه المناسبات بمناسبات "زواج" وليس عرسا كما كان يسمى في الماضي، والحقيقة أنهم أفلحوا بهذه التسمية.. فالمناسبات التي نحضرها هي مناسبات زواج أو نكاح، وليست مناسبات أعراس.. لأن العرس في المفهوم العام.. له طابع احتفالي فرائحي.. فنحن نقول مثلاً عرسا كرويا، وعرسا انتخابيا - طالما أننا في موسم الانتخابات- وعرسا ثقافيا وهكذا.. إمعاناً في إضفاء طابع الاحتفالية عليها.. أما ما يحدث في الفنادق وقصور الأفراح خاصة في العقدين الأخيرين فهي مجرد زيجات، ولا علاقة لها البتة بالفرح أو العرس.. إن لم تكن صنو الوجوم!. بطاقة الدعوة لنفسر الأمر على حقيقته.. لا كما يفترض.. تصلك بطاقة الدعوة، الداعي رجل عزيز عليك، لا تستطيع أن تتملص من دعوته، تشمشم رائحة إبطيك من بعد العصر، تأخذ دشاً ساخناً إن اختلط عليك الأمر، ومع مؤذن العشاء.. ترتدي أجمل ثيابك، ترش شيئاً من عطرك المفضل، ثم تركب سيارتك، وتتجه إلى قاعة الزواج، وقد تغوص في زحمة سير خانقة إن كنت مثلي ممن لا يعرف كيف يخطط لمشواره قبل أن يقبض على "الدركسيون"، تتضجر وتشتم من تعتقد أنه خاتلك من السائقين من خلف النافذة طبعاً.. على سبيل "فش الخلق ليس أكثر" حتى لا يؤدي الأمر إلى عراك بالأيدي والأقدام لو وقعت شتيمتك في أذنيه.. وحين تصل إلى مكان الزواج تبرم عشرات المرات لتعثر على موقف، وعندما تجده.. تتأكد من أنه الموقف الملائم الذي لا يسمح لأحد بأن يسد عليك. الرجال صافون كأنهم «صناديق بريد» محد يعرف وش داخل الثاني من الهواجيس..والنهاية «اقلطوا الله يحييكم» طقوس الفرح تدخل القاعة بعد أن تضع على شفتيك ابتسامة مصنوعة.. تصطف في طابور المهنئين الطويل والذي كثيراً ما يتعثر.. نتيجة إلحاح البعض على السلام بالتقبيل عوضاً عن سلام المصافح!، أو اختراع شيء من المزاح مع العريس في ليلة العمر، وأخيراً تصل للعريس وذويه.. تنثر قبلاتك على خدودهم مع الدعوات بالتوفيق، ثم تنحرف نحو الباب الذي دخلت منه و(يا فكيك)!، إن لم تكن ممن يقول طالما أنني وصلت فلأنتظر العشاء، لكن الأتعس حينما تجد من يحاصروا سيارتك بسياراتهم التي أوقفوها على عجل من الأمام ومن الخلف لأنهم قرروا أن "يتفطحوا".. لتقف جوارها كالبائس بانتظار أن يقبل عليك أحدهم وهو "ينقش" أسنانه بعود خشب، ليعرب لك عن أسفه الشديد من أنه تأخر عليك.. (لا يا شيخ!). أليس هذا هو المشهد العام؟.. أظن أنني سمعت نعم!.. إذن كل هذا السيناريو الطويل العريض كان من أجل تلك القبلة الطائرة التي نعلقها على خد العريس وتطير في الهواء. ألا يجدر بنا والحالة هذه..أن نحاول أن نبتكر طريقة فيزيائية.. كيميائية ما.. لنحقق هذه الغاية الصغيرة دون كل هذا العناء؟.. بمعنى طريقة تجعلنا نرسل قبلاتنا للمحتفلين دون هذه الغلبة، كأن نطالب شركات الجوال مثلاً باختراع خدمة تقنية خاصة لنقل قبلات السعوديين لبعضهم في الأفراح.. ما دام أنها غاية كل دعوة زواج، ولا شيء غيرها.. بحيث يتمكن من لا يريد أن يجلس للعشاء.. أو من يمنعه الأطباء لعلة أو أخرى من الاقتراب من المفاطيح.. ليبقى حيث هو ويستخدم هذه التقنية لإرسال قبلاته. نبي عرس «زي العالم».. عرضة وسامري وشعر وفرحة ترد الروح هذا خيار، وهنالك خيار آخر لا يبدو أنه سيكون الخيار الأسهل.. وهو أن نعيد صياغة زواجاتنا لتكون أعراساً بالفعل يسعد الناس بحضورها!. قد يبدو هذا الكلام تهكماً.. لكن ما هي الجدوى من حضور حفلات الزواج طالما أنها تخلو من الفرح الذي يمكن أن يشارك الناس فيه، ويعبروا عن فرحتهم بغير هذه القبل؟. أترك الإجابة لكم، ولن تغضبني اعتراضات بعضكم.. ممن ستأخذه العزة بالإثم لينتصر للواقع كيفما كان وفق العادة.. إلى أن يقيض الله لهذه الطقوس البليدة من يغيرها.. ليأتي هذا المعترض ويقول بعدئذ: (أثرنا ضايعين)!. في قاعة الرجال مقاعد وثيرة، وإضاءات يكاد سنا ضوؤها يذهب بالأبصار، وأناس يجلسون واجمين.. صامتين جوار بعضهم يمتلئون بالهواجس والأسرار والأفكار.. يتجاورون على تلك المقاعد كصناديق البريد لا أحد يعرف ما بداخل الآخر.. ومجموعة من العمالة الوافدة يديرون الأباريق والدلال (شاي وقهوة، وشاي وقهوة).. إلى إن تبدأ معركة القبل لينسل المتعجلون لإتمام واجبهم الذي جاؤوا من أجله ثم "يقضبون الباب"!.. فيما تبقى القلة القليلة التي ستحضر العشاء.. إما من باب "لا وافقك الخير وافقه".. أو من باب أن يدرك العشاء قبل أن يدركه الصباح وهو لم يبلغ باب بيته ويصبح كصديقنا في الأدب الشعبي "معايد القريتين" الشهير. «كليشة» ندعوكم لحضور زواج ابننا الشاب على كريمة.. نبي نفهم «تدعوهم على إيش»! في قاعة النساء ربما يكون الحال هنا أفضل بقليل.. إذ لا تزال ثمة بقية باقية للاحتفالية، التي تجعل لهذه المناسبات معنى ما من معاني الفرح.. ولو من خلال ال"دي جي" أو طيران الطقاقات.. وإن كان الأمر لا يخلو في النهاية من تقطيع الوقت، (وتقطيع الجلود) بينهن في التشفي في ملابس هذه، وتسريحة تلك، و"خلاقين" هذي، وغرور تلك، وإلى ما هنالك من تلك المكائد الصغيرة والعابرة التي تجيدها السيدات. العرس الذي كان في الماضي الذي لم يكن بعيداً.. كانت هنالك أعراس رغم أن مناسباتها كانت تقام في البيوت، إذ لا فنادق ولا قصور أفراح، كانت هنالك حفلات عرس حقيقي.. يشترك فيها أهل الحي بقضهم وقضيضهم، ويستمتعون بها، ويحسونها ويشعرون بها كما لو كانت لهم.. كان الناس يبتهجون عندما يتلقفون دعوة شفهية لحفلة عرس ويستعدون لها نفسياً.. ليستشعرونها بوجداناتهم.. لم تكن هنالك بطاقات دعوة بخيوط ذهبية ودانتيل، ونقوش وزخارف.. لكن في المقابل كانت الدعوة الشفوية تأتي مثقلة بالحميمية وبكل الأريحية والبهجة.. فعشاق العرضة أو السامري سيجدونهما أو أحدهما على الأقل هناك، والمدعوون لهم من الوشائج ما يجمعهم على الاحتفال والمزاح والضحك، والخروج بتلك السويعات من متاعب الحياة وآلامها، ولهم ما يجعلهم يستقطعون وقت العرس للتنفيس عن أنفسهم في فرحة لا تخطئها العين. الزواج الذي يكون أما حفلات الزواج الآن.. فهي كما يصنفها الكثيرون زواجات "سلّم واطلع" أو زيجات "ورّهم وجهك وامش"، مناسبات اجتماعية حاشدة ومثقلة بالأطعمة والمصاريف والإكسسوارات التي لا معنى لها.. مناسبات مضيئة بأسطع الأضواء، ولكنها باهتة ومظلمة من الداخل، مناسبات فخمة في أدواتها ومقراتها وحضورها.. لكنها هزيلة حد فقر الدم في أفراحها.. وربما يكون أكثر المتململين فيها هو العريس نفسه.. الذي عليه أن يتحمل طبع ما لا يقل عن ألف قبلة من المهنئين على خدوده قبل أن يبلغ القبلة التي اختارها. ومع هذا، ورغم النقد الذاتي الذي نمارسه يومياً ضدها.. وتأففنا المستمر من ثقل طينتها وجفافها من الفرح، ومن يبسها وعطشها الشديد حد الظمأ للفرائحية.. إلاّ أننا ساعة التنفيذ لا نجرؤ على المساس بأي من تفاصيلها، أو تقاليدها الزائفة التي اخترعناها.. مع اكتشاف ما يسمى بقصور الأفراح.. وستبقى هكذا إلى ما شاء الله.. وسنخترع أيضاً نحن ونساءنا اللائي يدرن شئونها المزيد من الشكليات الباهتة.. التي تستنزف الجيوب، وترهن حياة الزوجين للديون، ثم تحترق في ذات الليلة في مكانها.. كما تحترق قطع الطيب الكمبودي على جمر المباخر. وأخيراً.. سؤال بريء: هل نحن مولعون ب"المغثة" إلى هذا الحد.. لنجرها جراً إلى ما يفترض أنه (أفراحنا)؟.. لكم الإجابة!.