استعرضت في المقال السابق جزءاً مما تضمنته كلمة صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز – حفظه الله – عن القضاء . وأشرتُ إلى المسألة الأولى المهمة التي تحدث عنها سموه وهي وصيته للقضاة بعدم الانفعال على الخصوم والتعامل معهم كما ينبغي . وفي هذا الجزء أكمل الحديث عن المسألة الثانية المهمة التي استوقفتني في الحديث الضافي لسموه حيث أكد سموه على الابتعاد عن الاجتهادات الخاطئة والتمسك بالأصول، وما كان عليه علماء السلف وأن يستند أي حكم إلى آية أو حديث صحيح، وأن تكون أحكامهم عادلة وتعطي كل ذي حق حقه وأن يطمئن المواطن والمقيم لحقوقه عندما تعرض على القضاء . وهذه الكلمات في جملتها تقودني إلى الحديث عن مسألة لها أهميتها الكبرى وهي ما تنتهي إليه أي دعوى من حكم ٍقضائي ، إذ لا يخفى أن الغاية الأولى والوحيدة من القضاء هي فصل الخصومات وإيصال الحقوق لأصحابها ورفع المظالم . وهذه الغاية الشريفة لا تتحقق إلا بأحكام قضائية سليمة موافقة للحق والعدل ، وفق اجتهاد صحيح قائم على علم بالحكم الشرعي ، وفهم للواقعة محل النزاع ، وتطبيق سليم للحكم المناسب على تلك الواقعة . وإذا كانت المطالبات متواصلة بضرورة تقنين الأحكام الفقهية وإلزام القضاة بها وذلك لعدة مبررات وأسباب لها وجاهتها أهمها أن مستوى بعض القضاة في واقعنا ليس بالذي يناسب معه أن يترك لهم الاجتهاد بأخذ الأحكام وفق اجتهاداتهم الفردية القائمة على مدى تأهيل وعلم وفقه وفهم كل منهم ، فالقضاة في نهاية المطاف أبناء هذا المجتمع وجزء لا يتجزأ من مخرجات التعليم الجامعي لدينا الذي لا يجادل أحد أنه يعاني من ضعف كبير في عموم التخصصات وليست تخصصات الشريعة استثناءً من هذه القاعدة ، إذاً لم يعد من المقبول أن تبقى للقاضي خاصة حديث التعيين الحرية المطلقة في الاجتهاد والبحث عن القول الذي يختاره هو في بطون الكتب وتطبيقه على الواقعة المعروضة عليه . قضاة الاستئناف حالياً أصبحوا يشتكون من نوعية الأحكام التي صارت ترد إليهم من القضاة لما تضمنته من ضعف في الصياغة ، وأخطاء في الاجتهاد الموضوعي بدرجة مزعجة ، حتى صار عبء تنقية هذه الأحكام مكلفاً على محاكم الاستئناف كثيرا إلا أن موضوع حديثي هنا ليس عن التقنين لا بالمطالبة به ولا الانتصار للقول الذي يعتقد ضرورته ؛ إنما أجدها فرصة للتنبيه على مسألة أظنها أكثر خطراً من التقنين وأشد حساسية ألا وهي : وجود بعض الاجتهادات القضائية الغريبة التي بدأت تطالعنا بها بعض الأحكام خاصة في ظل التوسع في تعيين القضاة بأعداد كبيرة لسدّ النقص الحاصل في عدد القضاة . وبسبب هذه الاجتهادات الغريبة أصبح من المتعذر في كثير من الأحيان على المتخصص في الفقه والقانون – حتى ولو كان قاضياً سابقاً – وأنا أحدهم أن يتوقع النتيجة التي سينتهي إليها الحكم ، إذ يفاجأ الواحد منا حين تعرض عليه قضية فيدرسها من كل جوانبها ويحيط بها فهماً وتكييفاً ، ثم يتوقع أن تنتهي إلى الحكم بنتيجة محددة أو أكثر من نتيجة حسب تعدد أوجه الاجتهاد في تلك القضية ، إلا أنه يفاجأ بصدور حكم لا يمكن ولا حتى لأكثر القضاة فهماً وخبرة ً توقعه ، وذلك لما فيه من غرابة وخروج عن حد الاجتهاد المقبول . وحتى لا أكون متعجلاً في الحكم فقد أمضيت مدةً من الزمن في سبيل الوصول لهذه القناعة وتتبعت بعض الأحكام الغريبة وصرت أتعمد عرض الواقعة على عدد من القضاة ثم أسألهم عن الحكم الصحيح الذي يعتقدونه فيها وأترك لكل واحد منهم المجال للإدلاء برأيه حتى إذا انتهوا جميعاً من التوقع أرمي بين ظهرانيهم النتيجة التي صدر بها الحكم فعلياً لأراهم جميعا لا يخفون دهشتهم من غرابة النتيجة التي قررها القاضي في هذا الحكم الغريب . إذاً فنحن أمام مشكلة أخرى أهم من حاجتنا للتقنين ألا وهي حاجتنا على الأقل لأن يكون المتخصصون في الشريعة والقانون قادرين على توقع نتائج الأحكام وذلك بأن تلتزم أحكام القضاء بحدود عامة للاجتهاد المقبول ، فالمشكلة في بعض الأحكام القضائية أنها فضلاً عن عدم القدرة على توقعها بعد صدورها ؛ أيضاً يصعب على المتخصص استيعابها بعد صدورها ولا فهم وإدراك ما بنيت عليه ، فكم مرّ بي وبغيري من الزملاء القضاة والمحامين من أحكام تجعل من يسمع عن منطوق الحكم في شوق كبير للاطلاع على ما بُني عليه ذلك الحكم من أسباب لشدة غرابته . إن هذه الغرابة في الاجتهادات لا تبعث على الطمأنينة لأحكام القضاء ، ولا تساعد على قبول الناس لها وإذعانهم لما انتهت إليه ، وهذا إشكال كبير لأن من المقاصد التي ينبغي للقضاة أن يتحروا تحقيقها قبول الناس بالأحكام واطمئنانهم إليها . وكما أن هذه الإشكالية موجودة في الأحكام القضائية ، فهي موجودة أيضاً في الإجراءات والقرارات الوقتية التي تصدر عن بعض القضاة أثناء نظر الدعوى وقبل صدور الحكم القضائي . وحين تطلعُ على ذلك الحكم أو القرار القضائي وما تضمنه من اجتهاد غريب وغير مألوف ، فإنك تجد هذه الغرابة غالباً لا تخرج عن صورتين : إما أن يكون القاضي قد أبعد كثيراً عن التكييف الصحيح للواقعة محل النزاع وذلك بوصفها وصفاً لا ينطبق عليها ولا يمتّ لها بصلة . وإما أن يكون القاضي قد أصاب في تكييف الواقعة على وجهها الصحيح لكنه تعسف وأبعد كثيراً في تطبيق نص شرعي أو نظامي لا يمكن انطباقه على تلك الواقعة، ولا دخولها في مفرداته. وقد يقول قائل : أين محاكم الاستئناف عن هذه الأحكام القضائية الغريبة ؟ ولعلي أجتهد فأوضح أن قضاة الاستئناف حالياً أصبحوا يشتكون من نوعية الأحكام التي صارت ترد إليهم من القضاة لما تضمنته من ضعف في الصياغة ، وأخطاء في الاجتهاد الموضوعي بدرجة مزعجة ، حتى صار عبء تنقية هذه الأحكام مكلفاً على محاكم الاستئناف كثيراً في ظل ما تعانيه من قلة عدد القضاة ، ونقص حاد في الموظفين ، وغير ذلك من العوائق الكبيرة ، وهذا على وجه العموم وإلا فإن القضاة في الدرجة الأولى فيهم من هو أكثر علماً وفهماً من بعض قضاة الاستئناف وهذه حقيقة واقعة لأن الترقية لدينا بمجرد الأقدمية ، كما أن بعض أحكام محاكم الاستئناف داخلة في هذه المشكلة ولا تخلو من اجتهادات غريبة . إن الحل في نظري يجب أن يرتكز على عدة أمور أهمها : أولاً : يجب إعادة النظر في تأهيل القضاة قبل تعيينهم ، وإعادة النظر في واقع المناهج الحالية لكليات الشريعة وضرورة دمج الشريعة بالأنظمة في التدريس الجامعي إذ لم يعد من المقبول وجود قضاة ضعفاء في فهم النظام ، واستمرار حرمان خريجي القانون من التعيين في القضاء وهم من أبنائنا ولا ينقصهم من صفات العلم والعدالة سوى حجة أنهم خريجو كلية الأنظمة فقط . ثانياً : يجب التأني في تعيين القضاة وعدم التسرع في ذلك لسد النقص فيتم التساهل في معايير التعيين، وقد يُبتلى القضاء بمن ليس مؤهلاً له وهذه إشكالية خطيرة أسوأ من نقص القضاة . ثالثا : يجب التأني بعد تعيين القاضي في مباشرته للقضاء منفرداً فيجب أن يحظى بفترة كافية من التدريب واكتساب الخبرة ممن سبقه من القضاة ثم يعقد له اختبار يكشف عن مدى مناسبته للعمل في القضاء فإن اجتاز الاختبار وإلا فيمكن تحويله لمستشار وباحث ولا ضير في ذلك . رابعاً : ينبغي إعادة النظر في مسألة التقنين فنحن بحاجة ماسة إليها في الوقت الحاضر وفيها الحل لكثير من الإشكالات ، وإذا كانت الحجة التقليدية التي يتمسك بها معارضو التقنين هي سدّ باب الاجتهاد ، فليت سد باب الاجتهاد يتم إدخاله تحت قاعدة سد الذرائع التي تم توسيعها حتى قضت على الأخضر واليابس فليتها تتسع لسد باب الاجتهاد ممن ليسوا أهلاً له . خامساً : ينبغي نشر أحكام القضاة السابقين (غير المتضاربة طبعا) ، وتوسيع دائرة البحث العلمي في المسائل التي يحتاج إليها القضاء وهذا ما دعا إليه سمو الأمير نايف كما أشرتْ . سادساً : يجب المبادرة بتأمين أعداد كافية من المستشارين والباحثين فهذا الأمر أصبح ضرورة لا غنى عنها تعين القاضي على بحث القضية، وإن كان قد يؤدي إلى مشكلة أخرى وهي اعتماد بعض القضاة على المستشار فيكون هو القاضي الحقيقي وهذه إشكالية خطيرة لكن يمكن بحث تزويد المحاكم بمستشارين وباحثين تكون تبعيتهم للمحكمة عموماً ولا يختص بهم قاض بعينه . سابعاً : يجب تفعيل الرقابة على أحكام القضاة وإجراءاتهم بحيث تكون إحدى وسائل تقييم مستوى القاضي وذلك ما تضمنه التفتيش القضائي (وهذا يجب أن يكون بطريقة موضوعية عادلة لا إجحاف فيها على القضاة، وليس كما عليه الواقع حالياً إذ أصبح التفتيش القضائي عقبةً في وجه الإنجاز ووسيلة للتضييق على القضاة وهذا ما سيكون لي إليه عودةٌ في مقال لاحق – بإذن الله -). وختاماً فإنه متى سلمت الأحكام والإجراءات القضائية من الاجتهادات الخاطئة والغريبة فسيتحقق – بإذن الله – ما أكد عليه سمو النائب الثاني – حفظه الله – بقوله : " وأن يطمئن المواطن والمقيم لحقوقه عندما تعرض على القضاء " وهذا الاطمئنان الذي أشار له سموه مقصد من مقاصد القضاء الشرعي لا يجوز التهاون في تحقيقه.. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش الكريم سبحانه.. *القاضي السابق في ديوان المظالم والمحامي حالياً