استيعاب الشريعة الإسلامية للقوانين في أطرها الجنائية وسياقاتها الأمنية متقدم بالضرورة على القوانين العالمية السائدة وهي الفرنسية والبريطانية والأمريكية «الأنجلو ساكسونية»، ولكنه استيعاب عام يبدو لغير المسلمين غير واضح بذات المواد والبنود والتفريعات المشرعة للنصوص العقابية كما في تلك القوانين. ومما هو معلوم «قانونيا» أن المسؤولية الجنائية في الشريعة الإسلامية تدخل في الأحكام الفرعية والجزئية في دائرة المتغيرات، فيما عالج الشرع الجرائم المتغيرة التي تخضع للأحداث والظروف استنادا إلى قواعدها العامة التي تحمي الحقوق وتحارب الجرائم والاعتداء. ذلك يدفع باتجاه تفصيل إجرائي لأنظمة العقوبات الإسلامية، وهي فكرة في الإطار النظري قد تبدو مقبولة، ولكن في السياق التطبيقي قد تواجهها آراء فقهية تمنع معالجتها على هذا النحو، إلا على نحو مقارن كما اتفقت بشأنه جامعتا حائل والإمام محمد بن سعود الإسلامية لإنشاء كلية تعنى بالدراسة المقارنة بين الشريعة والقانون كمحاولة لإصلاح ما هو سائد عن التمايز بين الشريعة والقانون. يؤكد رئيس اللجنة الوطنية للمحاماة الدكتور علي السويلم أن «تقنين الشريعة الإسلامية سيخفف الضغط على القضاء، وطول النظر في القضايا، وتفاوت أحكام التعزير في القضايا المتشابهة، وتجعل القاضي يبت في القضايا بشكل سريع لأن لديه مواد شرعية يستند إليها في حكمه بدلا من البحث في المراجع الفقهية»، منوها إلى أن دارسي الشريعة الإسلامية مؤهلون لتقنينها أكثر من دارسي القانون. ويشير السويلم إلى تجارب لدول قديمة وحديثة في تقنين الشريعة الإسلامية منها مجلة الأحكام العدلية وهي الدولة العثمانية، ومجلة الأحكام الشرعية على المذهب الحنبلي وهي الآن موجودة ومطبقة على الدول العربية. المحامي سلطان الزاحم، يقول: «التقنين يختص بالأحكام القضائية لأن الشريعة الإسلامية مقننة، فيكون اجتهاد القاضي في أفق أو دائرة محددة خاصة أن الحاجة صارت طارئة في ظل التفاوت الكبير، لأن هذا التفاوت أمر طبيعي، فالمسألة تحتاج إلى حزم، فبسبب التفاوت في الأحكام القضائية لوقائع متشابهة رأت الدولة الحاجة للتقنين، والتقنين لا يكون مثلا لحصر اجتهاد القضاة، فذلك خطأ لأن دائرة الاجتهاد قلت، ولكن لا يزال هناك اجتهاد، غير أنه إذا حصرت أو ألزمت القاضي في أمر معين يعتبر سلبته إرادته وهي السلطة التقديرية، وجرائم مثل الرشوة والتزوير مقننة، ولكن مسائل التعزير مفتوحة نسبيا». ويضيف: «عملت السعودية في التفاوت والتقنين منذ عدة أعوام فنظام «التزوير، والرشوة» صدر منذ فترة طويلة، وكان الحكم المقنن في القضايا المقننة في الجرائم غالبا الجنائية ومنها جرائم المخدرات»، مؤكدا أن المحاكم في السعودية أو القاضي السعودي يتعامل مع تقنين جرائم «التزوير، والرشوة، والمخدرات» منذ عشرات السنين. ويستطرد الزاحم: «رأت الدولة التوسع في تقنين الأحكام القضائية بعد ما رأت نجاح الأحكام القضائية المقننة في أحكام جرائم «التزوير والمخدرات»، فتقنين الأحكام القضائية يخفف من الضغط على القضاء، وذلك في مصلحة القضاء، والتقنين من ولي الأمر، وهناك نوعية في القضاء كقاض في المسائل التجارية، وآخر في مسائل الأحوال الشخصية». ويشير إلى أن قاضي الأحوال الشخصية يحكم في المسائل التجارية، لكن حكمه غير نافذ لأنه بلا ولاية من ولي الأمر. وبالنسبة إلى المؤهلين لتقنين الأحكام القضائية، يقول الزاحم: «هيئة كبار العلماء أصدرت الموافقة المبدئية على تقنين الأحكام وأحالت الأمر إلى لجنة مختصة لصياغتها، ثم رفع مرة أخرى إلى هيئة كبار العلماء للنظر في هذه الآلية، ثم أحيل للجنة لوضع الصيغة والأحكام ثم يرفع لهيئة كبار العلماء إما لإقراره أو التعديل عليه». من جانب آخر يرى المحامي وليد المسند تقنين الأحكام القضائية في القضايا التجارية ومسائل الأحوال الشخصية حتى لا تتفاوت الأحكام فيها، مشيرا إلى أن «الأمور الفقهية يصعب تقنينها لأن ميزة الشريعة الإسلامية أنها أوسع من أن يترك الأمر لاجتهاد القاضي فيها، فلكل قضية ملابساتها ووضعها الخاص، فما ينطبق من حكم على هذه القضية ربما لا ينطبق على أخرى وإن تشابهت في أكثر من صورة، لكن بالنسبة إلى قضايا الأحوال الشخصية التي تتعلق بالنفقة والحضانة، مثلا، ينبغي أن تقنن لأنها حقوق واضحة لا تحتاج إلى اجتهاد». ويوضح المسند أن «التقنين في العقوبات التعزيرية أصبح اليوم مطلبا من وجهة نظر قضاة ومحامين ومختصين، إلى جانب المتورطين في القضايا التعزيرية، حيث يحد من التباين الواسع في كثير من الأحكام القضائية، إلى جانب تحقيق العدل والمساواة بين الجناة». ويؤكد أن «دارسي الشريعة الإسلامية والقانون مؤهلون لمشروع التقنين». وعن تجارب الدول في تقنين الشريعة، يقول: «اطلعت على حكم من محكمة تمييز في قطر فأبهرني هذا الحكم الرائع جدا فهو يتعلق بقضايا أسرية «طلاق وحضانة ونفقة» وعلى ضوء ذلك احترمت المحاكم القطرية بعد ذاك الحكم»، مؤكدا أن القضايا الأسرية ينبغي التقنين فيها، «لابد أن يصدر فيها نظام خاص فمثلا امرأة محتاجة إلى500 ريال تخوض إجراءاتها لدى المحكمة ما يقارب أربعة أعوام. ويشير المحامي الدكتور محمد المشوح إلى أن تقنين الأحكام القضائية مرفوع للمقام السامي من هيئة كبار العلماء، مضيفا: «ننتظر ترتيب الأمور للاستفادة من هذا القرار لخدمة القضاء». ويتابع: «لا يمنع أن يضطلع بالتقنين دارسو الشريعة الإسلامية والقانون حتى لا يوجد تنافر أو تعارض بينهما». ويشير المشوح إلى تجارب دول أخرى مثل تجربة سورية ومصر والكويت، بأمل أن تكون تجربة السعودية متميزة حيث إن تجارب هذه الدول لم تكتمل. ويلفت المحامي محمد البخيت إلى أن التقنين مختص بالأحكام القضائية لأن الشريعة الإسلامية مقننة، ورأى أن التفاوت في الأحكام التعزيرية يعود إلى الاجتهاد الممارس من قبل القضاة، الذين تختلف اجتهاداتهم وآراؤهم القضائية تجاه القضايا المنظورة، ومن هنا فإن الحاجة ملحة لسرعة تقنين الأحكام القضائية، وخصوصا ما يتعلق منها بالعقوبات. ويضيف: «نحن المحامين سنسعد بخطوة التقنين التي ستسهم في معرفة المآلات الشرعية والقضائية للدعاوى وإفهام الخصوم بالعقوبات المترتبة، وستسهم أيضا في انخفاض نسبة وعدد القضايا، وتحد من القضايا الكيدية، إضافة إلى سرعة الإنجاز لدى القضاة الذين غالبا ما يقضون أوقاتا طويلة في بحث المسائل والنوازل الفقهية والقضائية، فضلا عن كثرة القضايا التي يتلقاها القاضي يوميا في مكتبه، وجميعها حسب الواقع الحاضر تحتاج إلى مزيد بحث ودراسة ومراجعة أقوال العلماء والفقهاء والترجيح بينها واختيار ما يتوافق مع المسألة، كما أن من أشد ما نواجهه في المحاكم تفاوت الأحكام في قضايا، من المؤسف، أن يوجد فيها هذا التباين مثل قضايا الحضانة والنفقة وما يتعلق بأحكام الأحوال الشخصية والأسرة، إضافة إلى قضايا التعزيرات والجنايات والعقوبات» .