جميعنا معرض لأن يقع بالعديد من الأخطاء المختلفة، ربما بحجمها، أو ربما يترتب عليها أضرار نفسية واجتماعية أو حتى سلوكية، ولكن ليس من الممكن أن نتعامل جميعنا مع الخطأ ب»اللامبالاة» و»المكابرة»، والتي تقود إلى التمادي والاستمرار فيه، إذ لابد من وقفة تراجع وخطوة تصحيح له، وهذا بطبيعة الحال يعود إلى ثقافة الشخص وقدرته على التعامل الايجابي مع أخطائه. شخصيات مكابرة في البداية تقول «عفاف الفاضل» -اخصائية اجتماعية-: إننا نتعايش يومياًّ مع الشخصيات المكابرة على أخطائها، وربما نتجادل معهم لساعات طويلة دون الوصول إلى تغيير قناعاتهم، فهم يكابرون على حساب أنفسهم وعلى حساب راحة من حولهم، فهناك مثلاً مكابرة الأزواج على خطأ معين مع العناد والإصرار على عدم الاعتذار، فتجد كل منهما يرمي الكرة في ملعب الآخر، محملاً إياه كل تبعات الخطأ، ليصل بهم في نهاية المطاف إلى الطلاق، مضيفةً أنه كثيراً ما كانت المكابرة سبباً لنهاية حياة زوجية استمرت لسنوات طويلة، مشيرةً إلى أنه من الشخصيات التي لا تجد بديلاً عن المكابرة حتى ولو كان ذلك على حساب صحتهم، فهناك مثلاً من يمنعه الطبيب من تناول بعض المأكولات والمشروبات أو التوقف نهائياًّ عن التدخين كي لا تزداد أوضاعهم الصحية خطورة، غير أنهم يكابرون ويعرضون أنفسهم لنتائج وخيمة. أبناء متهورون وأضافت: لعل ذلك ينطبق على حال العديد من الأبناء المتهورين في قيادة السيارة، وهم يعلمون تماماً ويدركون أن ما يفعلونه ليس أكثر من مجرد لعب واستهتار بأرواحهم وأرواح الآخرين، حتى وإن كانت نتيجة استهتارهم المتعمد سبباً في حوادث تعاني منها الكثير من العائلات والأسر، لافتةً إلى أن أصعب أنواع الشخصيات مكابرةً هم أولئك المتعصبون لآرائهم وأفكارهم، وهؤلاء مهما أجمع الجميع على خطأ تفكيرهم ومنهجهم في الحياة، ومهما نصحتهم وجادلتهم، فإنهم يستمرون في «غيهم» ويكابرون على كلمة الحق بطريقة متكبرة ومغرورة و»عنجهية» للغاية. لا يرى إلا نفسه وتحدث الأستاذ «عبدالله الفايدي» -أخصائي اجتماعي- قائلاً: ليست هناك مشكلة حينما يخطىء الإنسان، ولكن المشكلة حين يعلم بخطئه وتأخذه العزة بالإثم، بل ويحاول أن يثبت للجميع أنه ليس على خطأ، محاولاً إسقاطه على غيره، والبحث بكل السبل عن الأعذار لنفسه، حتى لا تستيقظ لديه «النفس اللوامة»، مضيفاً: «قد يبرر أخطائه تلك بتبريرات غير منطقية يرفضها القلب والعقل والواقع الذي نعيشه، وبناءً على ذلك يرفض الاعتذار، معتبراً إياه العدو الأول له؛ لأنه إثبات بأنه مخطئ، أو لأنه لم يعتاد على ذلك بسبب الأفكار الخاطئة المترسبة في ذهنه وأفكاره، فقد تربى على مفهوم (أنا لا أخطئ)، وهذه هي ثقافة المكابرة وثقافة العزة بالإثم، والإصرار على الخطأ»، مشيراً إلى أن هؤلاء هم الأفراد الذين يتسمون بسمة الغرور، فالمغرور لايرى إلا نفسه!. وين أصرفها؟ وأكد «الفايدي» على أنه مازال هناك من يقبل على ثقافة المكابرة، إذ ليس لديهم القدرة على إزالة كل المخزون المتراكم في نفوسهم من الكره والمكابرة، كما أن صعوبة قبول البعض للعذر أو للاعتذار عن الأخطاء، هو ما يجعل الشخص أحياناً يتردد في الإعتراف به، أو يجعله لا يفكر به أصلاً؛ لكي يحافظ على ماء وجهه، مشيراً الى أنه كثيراً ما نرى أو نسمع شخصاً يعتذر لشخص آخر عن إساءته وخطيئته ويقابله الآخر بالرفض وعدم القبول، وأحياناً يحرجه ببعض العبارات مثل: «ماذا أستفيد من أسفك؟»، أو «وش أسوي باعتذارك الآن؟»، أو «وين أصرفها؟»، وغيرها من العبارات التي تحرج المعتذر، وتدل على عدم قبول الاعتذار. عوامل مختلفة ويقول «د.أحمد الحريري» -الباحث والمعالج في الشؤون النفسية والاجتماعية -: إن الكثير من الأشخاص لا يعترفون بأخطائهم، بل لا يبادرون بالاعتذار، وكأن ذلك يقلل من قيمتهم الشخصية، أو يحط من قدرهم المعنوي، وللأسف أن هذا السلوك يتدخل فيه الكثير من العوامل النفسية والاجتماعية والتربوية، فمن الناحية النفسية فقد يكون ذلك مؤشراً على اضطرابات الشخصية، والشعور ب»العظمة» أو حالة الهوس، أو ما يسمى ب»هوس التوقير» (Sebastomania)، وهو حب «التقديس» والشعور ب»القدسية»، التي ترمي إلى أن الشخص لا يرى نفسه مخطئاً، مشيراً إلى أنه قد تكون الأسباب اجتماعية، وتعود إلى ثقافة نمت وشجّعت عدم الاعتراف بالخطأ، أو نسق اجتماعي تزداد فيه فكرة أن المعترف بخطئه يقلل من قيمة نفسه، وهذه الأنساق الاجتماعية موجودة وتكثر في البيئات البدائية والقليلة الوعي والضعيفة التعليم. هناك من يتمادى على كلمة الحق بطريقة مغرورة و«عنجهية» غريبة لا مبرر لها الصدق والشفافية وأضاف: قد تعود المسألة إلى عادات تربوية تتصل بطريقة الأسرة في تربية أبنائها، حين تربيهم على التهرب من الأخطاء بإخفائها بدلاً من الاعتراف بها وتصحيحها، فكل أسرة تعاقب أبنائها على اعترافهم بأخطائهم تربي فيهم النكران والتزييف وإخفاء الحقائق بطريقة غير مباشرة، وهذه الطريقة في التعامل أيضاً يمكن تعميم أسبابها ونتائجها في المدرسة بين المعلم والطالب، وفي المهن المختلفة بين الرئيس والمرؤوس، ذاكراً أنه لابد أن ندرك أنه لا يوجد شخص كل آرائه صحيحة وكل أفكاره سليمة، وكل من يعتقد ذلك عليه أن يراجع نفسه ويوسّع أفقه، حتى لا يجد نفسه «منبوذاً» من الناس، والأولى له أن يستمع إلى الآخرين، وأن يتعلم الأسلوب الصحيح في الحوار الراقي في المناقشة، مع الأخذ بمبدأ الشورى، وأن رأيين أفضل من رأي واحد، وثلاثة آراء أفضل من رأيين، وفيما يخص المجتمع أكد «د.الحريري» على أنه لا بد من خلق ثقافة وعادة الصدق والشفافية والوضوح؛ لأن ذلك يزيد من النزاهة ويقوي معايير الصدق والصراحة، بل ويقلل من الأخطاء، ويجب ألا يؤاخذ الصادق بجريرة صدقة، وإذا كان هناك من ثمة خطأ يحدث، فالمخطئ يصلح خطأه ويشكر على صدقة وصراحته، حتى لا يتضاعف الخطأ بخطأ الكذب والتضليل. د.أحمد الحريري بيئة خصبة وتحدث «د.أحمد القاضي» - المستشار الاجتماعي والأسري- قائلاً: لاشك أن أسلوب المكابرة أسلوب ينفاه الدين وتنبذه الحضارة، وهو نتيجة إرهاصات وانعكاسات لأسلوب التربية المنزلية والمدرسية، وذلك من خلال إعطاء الثقة الزائدة بالنفس والاعتزاز بالرأي الخطأ، بالإضافة الى عدم تبني الرأي والرأي الآخر، وعدم الأخذ بمبادئ الحوار والمشورة وترسيخها لدى النشء، وهذا الغياب يعود إلى عدم وجودها ابتداءً من المنزل ومروراً بالمدرسة، ووصولاً إلى مؤسسات المجتمع، والتي جلها تمارس ذات الثقافة ولو باختلاف النسب والتناسب، مبيناً أن ذلك أوجد بيئة خصبة لتعزيز مفهوم المكابرة، ليصبح ميلاً ومن ثم اتجاه إلى أن يتبلور قيمة متأصلة لدى الفرد، يصبح معها من الصعوبة بمكان إعادة تشكيلها من جديد، مؤكداً على غياب مفهوم التراجع عن الخطأ في المناهج المدرسية، إذ لا توجد برامج وقنوات تربوية ترسخ هذا المفهوم، وهنا لابد من غرس السلوك الإيجابي في الأبناء وغرس «ثقافة الاعتذار» وتعزيزها بالأبناء منذ الطفولة، وذلك من خلال تعويدهم على قول الصدق بشجاعة، متسائلاً: كم سيكلفنا الوقت والجهد لتعويد أبنائنا على كلمة «آسف»؟. ثقافة الحوار وذكر «د.القاضي» تبعات المكابرة على الخطأ التي من أهمها الجمود والانغلاق الذي ينتج عنه مشروعات تربوية وأسرية فاشلة، فضلاً إلى أنه أحد معوقات التنمية الاجتماعية والحضارية، مضيفاً: «من هذا المنطلق أمامنا مشروع كبير جداً، وهو تبني المنزل والمؤسسات الاجتماعية الأخرى ثقافة الحوار والمشورة والاعتذار، فيفترض أن يكون لكل منزل مشاورات وأسلوب راقٍ في الأخذ والعطاء، والابتعاد كل البعد عن أسلوب التسلط والاستبداد بالآراء، فروح العصر تتطلب من الجميع الاقتناع بالكثير من المفاهيم لمزيد من التطور والتقدم نحو الأفضل». عبدالله الفايدي د.أحمد القاضي