هل يقتصر فهمنا للشعر وماهيته على الصورة التي طبعت في أذهاننا عنه في مراحل التعليم المختلفة والتي خلقت بيننا وبينه قطيعة لا تنتهي ؟ وهل الشعرية لا تتواجد إلا في ذلك النموذج الشكلي المسمّى ب(القصيدة) ؟ أم أن هناك بعداً آخر يمكن له أن يعكس حالة الشعور بالشعر وفهمه وتلمّس حواسه ؟.. في أكثر الآراء النقدية وعبر عصور مختلفة كان الشعر يعني الشكل أو النموذج الذي يطل من خلاله الشاعر عبر إيقاع معين وصياغة منتظمة. وهذا ما جعل تلك الفكرة عن تعريف الشعر تترسخ في تلك العقول أو الأرواح التي تجمّدت على طاولات المدرسة وهي تتعلم كيف تتذوق الأشكال بدءاً من الشعر وانتهاء بالفنون الأخرى، حتى أصبح الفهم في حياتنا مقصوراً على التمييز بين الأنماط والأشكال بعيداً عن المضامين أو العمق الذي هو النافذة التي تفوح من خلالها رائحة كل الأشياء ."ويختلف مفهوم رواد الشعر العربي الحر للشعر عن المفهومين الكلاسيكي الذي يربط الشعر بمرجع خارجي هو واقع الحياة والرومانسي الذي يربط الشعر بمرجع داخلي هو ذات المبدع. فالمفهوم الكلاسيكي على الرغم من أنه يرى الشعر صناعة فإنه يقيده بالمرجع. وبهذا تصبح قيمة الشعر مرهونة بمدى اقترابه من ذلك النموذج. وفي هذه الحال يبقى الواقع أصلاً والشعر امتداداً له يمكن الاستغناء عنه مادام الواقع أكثر عمقاً والشعر صورة له. أمَّا المفهوم الرومانسي فيهتم بالذات منطلقا للإبداع أكثر من طبيعة الشعر. فهو لا يضع مقاييس محددة للشعر بل يركز همه على صدق التعبير عن عاطفة الشاعر. فالشعر هنا عالم جديد مستقل نسبياً عن الذات والموضوع وهذا ما يبرر وجوده". وهذا ما جاءت به الدراسات الحديثة والفهم الحديث للحياة بشكل عام وللفنون المختلفة التي فجرت في تلك الأطر الثابتة لقياس الأشياء واستيعابها وأصبحت الشعرية حالة من التناغم بين حالات متنوعة تعكس الجانب الموسيقي والجانب الشكلي والجاني الوحي والعقلي والتأملي العميق، أي أنها إحساس يشكله التواجد والحضور الكامل للحياة داخل الفرد الذي يتلقى تلك الفنون ومنها الشعر. "وقد تأثر هؤلاء الرواد بأصحاب نظرية لخلق مثل إليوت وجيروم ستولنيتز وألان تيت وغيرهم. وعلى الرغم من تأثرهم بإليوت في نظرية الخلق فإنهم لم يقولوا بالمعادل الموضوعي من حيث هو وسيلة للخلق، وإن ذكروا وسائل مثل الصهر أو التمثل والتحويل وإعادة التشكيل. فالشعر عندهم خلق جديد لا تقليد للموروث الشعري أو المجلوب الغربي إنه شيء مختلف عن مرجعه، لذلك أنه يقول المجهول والممكن ولا يقول الكائن والموجود. فالشعر رؤيا تتجاوز المكان والزمان المحدودين إلى اللا محدود والمحسوس إلى المجرد.