حين يصبح الابن قادراً على الإنفاق، ويكون الأب قد أدى مهمته حق الأداء، وأفنى عمره لتربية أولاده، وهمّ دخول "مرحلة أرذل العمر".. فمن حقه أن يجني ثمار غرسه، وأن يجد من أبنه البر لمساعدته على تحمل المصاريف، وظروف الحياة الصعبة. نتوقف في هذا التحقيق عند نماذج بعض الأبناء الذين يعيلون آباءهم مادياً؛ نتيجة الضائقة التي يمرون بها، ورغم تأكيدهم على صعوبة المسؤولية المادية التي تقع عليهم في وقت مبكر (مسؤولية بيت أهله ومسؤولية بيته)، إلاّ أن عظمة ما يفعلونه مع اقتناعهم به يخفف عنهم مصاعب هذه النفقات التي يصفها بعض بأنها "ورطة" مع ارتفاع تكاليف المعيشة، ولك ما يقدمونه يجعلهم أكثر قناعةً وإيماناً أنهم سيجنون ثمار تعبهم، وأهمها رضا الله عز وجل، الذي ارتبط برضا الوالدين على أبنائهم. عائل لأسرتي "عبدالله العبدالهادي" يعد نفسه مساهماً في تلبية بعض "الحاجيات" أو النواقص الفرعية التي يحتاجها البيت، لكنه اليوم بعد أن بدأت المسؤوليات المادية تُثقل كاهل والده، أصبح مُعيلاً لأهله على حد تعبيره، مضيفاً: "أنا أكبر إخوتي الأربعة، ووضع والدي المادي لم يكن جيداً، فطوال عمره كان يعمل من دون أن يجني ربحا من عمله، وبعدما أنهى مصاريف تعليمي الجامعي، عملت في إحدى الشركات بمجال تخصصي - شبكات الكمبيوتر -، وحينها كنت أساعد في بعض أمور البيت حسب مقدرتي"، مبيناً أنه بعد انتقاله للعمل في إحدى القنوات الإعلامية الشهيرة، تغير وضعه المادي كلياً، حتى استطاع أن يتكفل في تعليم شقيقيه في الجامعة، إضافة إلى أنه اشترى سيارة جديدة لوالده، ذاكراً أنه بلغ من العمر 33 عاماً ولم يتزوج؛ بسبب إنشغاله بأهله، مشيراً إلى أنه وصل إلى مرحلة بات فيها قادراً على أن يكوّن أسرة، وعموماً أصبح والده الآن يشغّل بعض أمواله في الأسهم التي يتوفق فيها إلى حد ما؛ ما جعل أمورهم المادية مستورة والحمد لله. الشيخ المعبي: ترك الإنفاق مع قدرة الابن يعد أكثر إيذاءً من كلمة «أُفٍّ» راحة ضمير فيما يشير "صالح الوزاب" إلى أن مسألة مساعدة الأبناء لآبائهم ليست بالشيء النادر أو الغريب، ويوضح أنه يعرف كثيراً من أصدقائه يساهمون مع ذويهم في مصاريف منازلهم، خصوصاً من العزاب المقيمين، الذين يأتون هنا إلى الخليج ويرسلون لأهلهم مصروفات ثابتة بحكم دخلهم الشهري الممتاز هنا، ويقول: إن مساعدته لأهله في الإنفاق بقدر ما كانت صعبة وأخذت منه مجهوداً ووقتاً، إلا أنها أضافت له كثيرا، مفسراً ذلك بالقول: "تحملت المسؤولية باكراً وهذه مسألة زادت من قوة شخصيتي وجعلتني أكبر من عمري، وأمدتني بثقة كبيرة في نفسي وفي جوانب الحياة المختلفة العملية والاجتماعية، هذا عدا فخري وسعادتي البالغة بما حققته لأهلي وهم أقرب الناس لي، والآن أشعر براحة ضمير وبال، ومقبل على الزواج بنفس مستعدة ومتفائلة". مساعدة مالية وتوضح "عبير" أن تمسكها بعملها يعود لأسباب تتعلق بظروف والدها، وتقول: "صحيح أن والدي كبير في السن ووصل إلى التقاعد، لكن في الوقت ذاته لا يزال بقية أبنائه صغاراً، والسبب يعود إلى أن والدي كان متزوجاً من امرأة أخرى قبل أمي، وله منها ثلاثة أبناء، وبعد ست سنوات زواج انفصل عنها وتزوج والدتي، وعددنا الآن ستة أبناء، 3 بنات ومثلهم ذكور، وأنا الابنة الثانية بعد أختي الكبرى التي تزوجت وسافرت مع زوجها، ورغم أني تزوجت أنا أيضاً إلا أني ما زلت أعمل من أجل مساعدة أبي، وزوجي متفهم جداً لهذا الأمر، فما زال لنا أخ في المدرسة، وآخر في الجامعة، والثالث لم يجد عملاً حتى الآن، أما إخواني من أبي فهم لا يعيشون هنا، وبالكاد ينفقون على أنفسهم وزوجاتهم، وعلاقتهم بوالدي ليست جيدة، وبالتالي فأنا مضطرة مع أختي التي أنهت جامعتها منذ عام، للمساعدة على تعليم إخوتنا ومصاريف البيت، لاسيما وأن رواتبنا جيدة إلى حد ما، فأنا وأختي نعمل بسلك التعليم". الجريان: طاعة الوالدين ورعايتهما عند الكبر هما أبسط ما يجب تقديمه لهما تعاون زوجي وتتحدث "سعاد منصور" قائلةً: رغم شقاء العمل ومسؤوليات البيت والأطفال، إلا أني فخورة بما أفعله تجاه أهلي، من أجل تحسين مستواهم المعيشي، مضيفةً: "ما أخذه والدي من نهاية خدمته ضاع كله تقريباً على مشروع فاشل لم يجنِ منه سوى الخسارة، فبعدما ترك عمله فتح محل بيع "الإلكترونيات" ولم ينجح به، لاسيما وأن الخبرة غائبة عنه في هذا المجال، ما انعكس ذلك سلباً على وضع بيتنا الذي مر بضائقة مالية كبيرة، وأحمد ربي أن زوجي إنسان متفهم جدا، ويحب عائلتي، فمقابل مساعدتي لأهلي بنصف راتبي يساعدني زوجي في سد قرض سيارتي أيضاً، والحمد لله ربي يسرها علي، رغم صعوبة الظروف، إلا أني بالفعل أشعر براحة وتيسير دائم، ويكفي رضا الوالدين علي". فقر الوالدين ويقول الشيخ "أحمد المعبي" عضو هيئة المحكمين: أوصى الله سبحانة وتعالى بالوالدين بقوله تعالى: "وَقَضَى رَبَكَ أَلاَّ تَعْبُدُوْا إِلاَّ إِياَّه وَبِالْوَالِدَينِ إِحْسَاناً"، مفسراً بالقول: من الإحسان للوالدين الإنفاق عليهما عند حاجتهما، ومن المعلوم أن ترك الإنفاق عليهما عند الحاجة وقدرة الولد على الإنفاق عليهما أكثر إيذاء لهما من كلمة "أُفٍّ"، مؤكداً أن العلماء قد أجمعوا على نفقة الولد لوالديه، فكما قال ابن المنذر: "أجمع أهل العلم على أن نفقة الوالدين الفقيرين اللذين لا كسب لهما ولا مال واجبة في مال الولد"، مشيراً إلى أن الواجب نفقة الوالدين والأجداد والجدات، وإن علوا، موضحاً أنه يشترط لوجوب الإنفاق على هؤلاء أن يكونوا فقراء لا مال لهم، ولا كسب يستغنون به عن إنفاق غيرهم عليهم، كراتب ثابت على سبيل المثال أو عقار أو ما شابه ذلك، فإن كانوا موسرين بمالٍ أو كسب يستغنون به، أي يجدون كفايتهم، فلا نفقة لهم، وحينها تجب سبيل المواساة - أي ما يعطى بطيب خاطر بين فترة وأخرى - بتقديم مبلغ صغير أو هديه مثلاً، والموسر مستغنٍ عن المواساة، لافتاً إلى أنه لا يشترط في الوالدين عجزهما عن الكسب مع فقرهما؛ لوجوب النفقة لهما على ولدهما، بل يكفي لهذا الوجوب فقرهما وعدم كسبهما، سواء قدرا على الكسب أم لم يقدرا، ذاكراً أنه من خلال ما سبق يتبين أن النفقة على الوالدين واجبة بشرطين: الأول فقر الوالدين وحاجتهما للنفقة، والثاني قدرة الابن المنفق على هذه النفقة. واجب مفروض ويرى "محمد الجريان" المستشار الأسري، أنه في وقت من الأوقات لا يُعد الإنفاق على الوالدين مجرد عرفان بالجميل، أو كرم أخلاق، واحترام لهم فحسب، بل يصبح التكفل بالإنفاق عليهما واجباً مفروضاً أيضاً على الأبناء حينما يتحقق شرطان رئيسيان، الأول: فقر الوالدين وحاجتهما للنفقة، والثاني: قدرة الابن المنفق على هذه النفقة وفقاً لما يوضحه الشرع، مضيفاً أنه كما للأبناء حقوق على آبائهم لضمان حياة كريمة، فللآباء حقوق أيضاً على أبنائهم، حيث تعد طاعة الوالدين واحترامهما ورعايتهما خصوصاً عند الكبر أبسط ما يجب تقديمه لهما، لاسيما بعد أن يُتمم الأبناء سن الرشد، حتى يمضوا قدماً نحو طريق الاستقلال المادي باستلامهم وظائف أعمالهم التي سيتقاضون منها رواتبهم، في مرحلة يفترض أن تكون هي بداية نهاية الواجب المادي المفروض على الآباء اتجاه أبنائهم، لا سيما إن كان رب الأسرة غير مقتدر أو متقاعداً عن العمل.