يقول فرانسيس بيكون :» الإنسان إذا بدأ باليقينيات فإنه سينتهي بالشكوك والريب ، ولكن إذا ما قنع بأن يبدأ بالشكوك فإنه سينتهي إلى اليقينيات « . هذا ما يشهد به عالم الفكر كما يشهد به عالم الواقع . ولا شك أن (عالم الفكر) الإسلامي اليوم هو عالم مُتخمٌ باليقينيات والقطعيات التي لا يصدر عنها غير الاضطراب ، وغبش الرؤية ، ولوم الآخر ، وأخيرا ، انتحار اليائسين بشتى صور الانتحار ، ولو كان انتحارا خافتا ومشرعناً يتمظهر في حالة الانكفاء على الذات بدعوى الأصالة أو التأصيل ، أو العودة إلى الزمن الجميل !. لا يخفى على أحد أن هناك رعبا وهلعا وغضبا من كل محاولات التفكير في التاريخ الإسلامي ، كما في الفكرة الإسلامية المجردة ، تلك الفكرة التي تجسدت فكرا بواسطة العقل البشري النسبي الذي حاول تأويل المتعالي المطلق بقدر ما يستطيع . إن من الواضح أن هذا الهلع والرعب والغضب من حصار القراءات الناقدة الفاحصة لا تشمل طيفا واحدا من أطياف الظاهرة الإسلامية ، كما لا تشمل مذهبا واحدا ، وإنما هي ظاهرة تكاد أن تكون (حالة عامة) تتلبس واقعية الفكر الإسلامي (بما في ذلك تصوراته التاريخية والعقائدية والفقهية) ، كما تتلبس واقع المسلمين . إن هذا الرعب والغضب اللذين يبديانه سدنة التقليدية (التقليدية في كل مذهب ، وفي كل فرقة ، وفي كل تيار) تجاه كل صور المراجعة ، بل تجاه كل محاولات القراءة النوعية ؛ ولو من داخل الصف ، لا ينبئان عن يقين ، ولا عن مستوى متقدم من الإيمان ، وإنما ينبئان عن شك واضطراب يحتلان أعمق الأعماق ، إلى درجة قد لا يتصور السادن التقليدي المعطوب بكل هذا حجم ما يعاني ، بل ربما تصور نفسه ، من حيث مستوى العقل الواعي ، سليما منه ، بل ربما وصل بنفسه إلى درجة مطلق الإيمان . يقول هنري بوسكو : « حين يكون البيت قويا ؛ تكون العاصفة ممتعة « . وهذا ما نراه واقعا . فعندما تكون واثقا من قناعاتك التي عرضتها مرارا وتكرارا على الفحص ؛ فستكون سعيدا بكل القراءات النقدية المُراجِعة ، حتى تلك التي قد تسعى لنقض قناعاتك عندما تكون واثقا تمام الثقة من يقينياتك ، لا تجفل عن التفكير فيها بنفسك وباستمرار ، بل لن تغضب عندما يحاول الآخرون تفحصها بأقصى درجات التفحص والاختبار . عندما تكون حقائبك وأنت عائد من السفر خالية من الممنوعات (ولو كان الممنوع كتابا يتيما!) فإنك لن تقلق ولن تضطرب ولن تغضب عندما يُلح رجال الجمارك على تفتيشها بدقة واحترام !. لكن ، لو كانت حقائبك تحتوى بعض الممنوعات ، فستستشعر حينئذٍ بالقلق ، وربما يبدو عليك الاضطراب . وطبعا ، كلّما زادت خطورة الممنوعات ؛ كان شعورك بالقلق والاضطراب والغضب أكبر . وهذا قد يقود الآخرين إلى توقّع أنك تخفي كثيرا من الممنوع الذي يجب أن يبقى طيّ الكتمان ؛ حتى ولو كان ما تخفيه أقل من توقعاتهم بكثير . إذا كنت واثقاً من جودة بضاعتك ، فلن يضرك ولن يُغضبك أن تمر هذه البضاعة على اللّجان الفاحصة ، بل سيسعدك هذا ؛ لأنها في النهاية ستكشف للجميع ، وبشهادات علمية موثقة ، جودة بضاعتك ، كما ستكشف ، من ناحية أخرى ، رداءة بضاعة الآخرين ، مما يعني أنك (إذا ما كنت حقا واثقا من جودة بضاعتك وسلامتها) الرابح الحقيقي ؛ جراء قيام هذه اللجان الفاحصة / الناقدة بعملها بكل أمانة وإخلاص . يقول هنري بوسكو : « حين يكون البيت قويا ؛ تكون العاصفة ممتعة « . وهذا ما نراه واقعا . فعندما تكون واثقا من قناعاتك التي عرضتها مرارا وتكرارا على الفحص ؛ فستكون سعيدا بكل القراءات النقدية المُراجِعة ، حتى تلك التي قد تسعى لنقض قناعاتك ؛ لأنها مجرد عواصف . صحيح أنها قد تكون عواصف قوية ، لكن ما يحدد درجة خطورتها ليس قوتها وقدرتها على التدمير ، وإنما الذي يحدد ذلك هو : قوة بيتك وقدرته على الصمود . بل إن درجة قوة العواصف ، هي ما سيمنح بيتك ، في النهاية ، شهادة متانة وصلابة ، وستشهد هذه العواصف بقدرته على تحمل كل الأخطار ؛ مهما كانت درجتها . كما ستمنح أهل البيت أمانا أكبر ، إذ سيدركون بأن هذا البيت القوي سيبقى قائما بوظائفه التي يحتاجون إليها ؛ رغم ما يكتنفه من أخطار. إذن ، بحجم الشك الذي ينطوي عليه مُدّعو اليقينية ؛ تكون درجة الغضب التي يبدونها تجاه القراءات النقدية ، أو القراءات التي تحاول مراجعة ما حدث في زمن البدايات . إن البدايات عند كل الفرق وكل المذاهب وكل الطوائف وكل التيارات هي بدايات ملتبسة ، إنها بدايات تقول أشياء ؛ لتسكت عن أشياء ، وتظهر أشياء ؛ لتخفي أشياء أخرى . وكل فريق صنع عالمه الافتراضي لأتباعه كما أراد ، وقام بكثير من التعديلات ، سواء بالإضافة أو بالحذف ؛ ليظهر ، لأتباعه على الأقل ، أنه الذي يحكي منطق الشرع بشهادة منطق التاريخ . ولا شك أن هذا قد تسبب في تغييب منطق الشرع ، وغياب منطق التاريخ . وتواري هذا وذاك ، هما سبب كل ما كان من ضياع ، بل ، وهو الأهم ، هما سبب استمرارية هذا الضياع . لا شك أن الفتوحات الأولى أدخلت الإسلام بصورة مفاجئة في الواقع ؛ بينما كان حمَلته لم يكملوا رحلة تَمَثله ، بالدرجة الكافية ، لا على مستوى التّعقل العقلي ، ولا على مستوى الاستلهام الوجداني . حاول الراشدون رضوان الله عليهم وبدرجات متفاوتة ، تسريع رحلة التَّمثل من خلال محاولة التحكم بالواقع . لكنهم اصطدموا بضراوة الواقع وشراسته . ولهذا لم يكن نجاحهم النسبي الذي تحقق في حدود الأطر الزمنية التي تحكموا بها كافياً لنقل بعض ملامح التجربة الإيجابية ، بل كان الارتداد عن التجربة فظيعا ومحبطا ، بل وقاتلا ، لكل ما بُني على مثاليّة التجربة من آمال . لقد نتج عن هذا الارتداد المحبط والفظيع كثير من التشظيات على أرض الواقع ، وهي تشظيات باتت تبحث لنفسها عن شرعية ؛ بواسطة قراءات تأولية لهذا الحلم المُجْهض الذي لم يتحقق . إنه الحلم الذي أومض ولم يمطر يقيناً ، إنه الحلم الذي تلاشى ؛ بينما كانت الذات الإسلامية حائرة في تفسيره بين كونه واقعا، وبين كونه حلما في حكم المستحيل . إذن ، لم يخضع الحلم ، كما لم يخضع الواقع ، لقراءة واحدة ، بل كانت هناك قراءات متعددة ومتباينة لهذا الحلم المستحيل الذي يطمع بزمن مستحيل . ومن المعلوم أن هذه القراءات المتباينة هي التي أنتجت الفرق الإسلامية التي تختلف على أرض الواقع بقدر ما تختلف القراءة ، كما أن القراءة من جهة أخرى تختلف بقدر ما يتحدد مصيرها في الواقع . إنه ، ورغم كثرة الفرق ، أو كثرة القراءات ، إلا أن الذي اشتهر منها ، واستطاع استقطاب الأتباع ، هما فرقتان أو قراءتان : الأولى : حاولت شرعنة ما حدث من ناحية كونه في نظرها ضرورة قدرية ، لا ضرورة شرعية . أي أنها في النهاية تُشرعن ما حدث ، وتمنحه وإن لم تقصد مباركة القدر الإلهي . ولا شك أنه إذا تقرر أن ما حدث كان حتميّ الحدوث ؛ مهما كانت درجة ممانعة الفعل الإنساني ، فإن ذلك سيخفف من درجة الإدانة التي لابد أن تصدر بحق أولئك الذين سرقوا الحلم الواعد بحد السيف . وهذا ما حدث بالفعل ، إذ أصبح أولئك رموزا في التاريخ ، رموزا في التاريخ على الأقل ؛ رغم إدانتهم على مستوى التنظير الشرعي ، ذلك التنظير الذي رأى في سلوكياتهم الانقلابية على النظرية الإسلامية مجرد سلوكيات عملية خاطئة ، لا تمس معالم النظرية بسوء . وغاب عن هذا التنظير أن الفعل العملي هو في عمقه تنظير عملي ، يبقى أثره عميقاً ، بل أعمق مما تطرحه أمثل وأكمل ، بل وأقدس النظريات . لكن ، ومع كل محاولات التبرير ، لم يستطع هذا الفريق إكمال شوط التبرير الواقعي المشرعن بالقدر إلى النهاية ، بل حاول الانفلات منه بين الحين والآخر ببعض التفريعات التي لا تنقض أصل النظرية ، بل تكتفي بالتهميش الاعتراضي عليها . وهذا ما ظهر في صورة الكتابات التنظيرية لما يجب أن يكون عليه الإمام / الحاكم العادل ، والدولة العادلة ؛ بحيث بدأ التنظير يبتعد كثيرا عن التبرير . إن هذا التهميش الاعتراضي على النظرية التبريرية أنتج ما هو أخطر ؛ عندما امتزج بالإحباط المدني الحديث ، أقصد الإحباط الذي نتج من مقارنة فشل الأنا الذريع بنجاح الغرب في إقامة دولة العدل في الواقع . فعبر الطروحات الطوباوية التي تتقدم بها الإسلاموية المعاصرة من أجل بناء عالم إسلامي جميل ، عالم يعد بكل الحلول ، عالم / زمن مستحيل ، يمكن ملاحظة الجدلية الخجولة بين النظرية الأصل (= التبريرية) ، وبين ما أحدثه ذلك التهميش . الثانية : حاولت نقض الواقع ورفضه بالاصطدام الحاد معه . وبما أن الواقع له قوانينه التي لا تستجيب للأحلام ، فقد كان نصيبها الفشل الدائم . كما أن عدم تسامحها ، بأية صورة ، مع الحركة الارتدادية ، جعلها تعيش حالة مأساة دائمة ، مأساة لا أفق للخروج منها إلا بحلم أسطوري عريض ، حلم يتحقق على يد شخصية أسطورية لا تنتمي إلى الواقع إلا بمقدار ما تبتعد عنه ، شخصية سيتحقق على يدها ذلك الذي حلُم به الجميع : الزمن المستحيل . هاتان القراءتان / الفرقتان ، كلتاهما مارستا عملية تنكر للواقع ، الواقع الذي يجب العمل من خلاله ، لا الهروب منه بتبريره ، ولا الهروب منه باستجلاب حلم يخرج على قوانينه . ولعل في هذا التنكر ما يفسر الفشل الذريع الذي كان من نصيب كلتا القراءتين / الفرقتين في إقامة فضاءات عادلة على ضوء إمكانات الواقع ، الواقع الذي سقط من يد الأولى ، كما هرب من يد الثانية ؛ رغم محاولاتهما الإمساك به بواسطة الأحلام والأساطير . إنه لأمر محبط أن تحضر الأساطير والأحلام ، ويغيب الواقع ، عند أكبر فرقتين مسلمتين تتنازعان الحقيقة الإسلامية . إن حاضر المسلمين ومستقبلهم رهين بما تنتجه هاتان الفرقتان من تصورات عن الواقع وعن المستقبل . ولا شك أنه سيبقى في المدى المنظور رهين الفشل الذريع المتمثل بدوران الأحلام والآمال والطموحات حول زمن مستحيل..