يؤكد د. جابر عصفور في كتابه : (المرايا المتجاورة)، وهو الكتاب الضخم كمّاً وكيفا، والذي يعد من أفضل الدراسات النقدية لتراث طه حسن، أن طه حسين كثيرا ما يتناقض في رؤاه النقدية، وفي توجهاته الفكرية، الممتدة على مدى زمني طويل . لكنه - رغم هذا التأكيد - يلاحظ أن هناك مستوى عميقا ؛ يجمع بين كل هذه المتناقضات، ويؤلف بين هذه المتباينات . وفي هذا المستوى العميق، نجد التنوير ؛ كخطاب في التغيير، ماثلا في كل الممارسات النقدية والفكرية لطه حسين . إذن، لم تكن الكتابة النقدية أو الفكرية لطه حسين مجرد رؤى متناثرة، لا يربطها هم فكري عميق ؛ يوحّد - في العمق - بين أجزائها، وإنما هي رؤى مشدودة إلى قيمة : التنوير . قد يشكل على كثير من قرّاء الظواهر الفكرية، تباين مواقف طه حسين بين حين وآخر، وخاصة عندما تصل حد التناقض الظاهري . لكن، لكل موقف وجهته، ولكل رؤية مآلاتها في سياقاتها الخاصة، التي تحتم على المفكر (التفاعلي - الجدلي)، أن يكون بعيدا عن الجمود على ظواهر الفكر ؛ بينما المتغيرات الاجتماعية تنتقل من النقيض إلى النقيض . عند كتابة الدستور المصري عام 1933م اعترض طه حسين على نص الدستور : (الإسلام دين الدولة الرسمي) . لكنه، بعد عشرين سنة، وعندما كان عضوا في صياغة الدستور عام 1953م وقف موقفا مناقضا لهذا الموقف، بل تجاوز الاعتدال - في الظاهر - إلى تبني أكثر الرؤى تقليدية رجعية وتخلفا وعنصرية وامتهانا لكرامة الإنسان . لقد اقترح الفيلسوف الكبير : عبدالرحمن بدوي أن ينص الدستور على المساواة بين الرجال والنساء . وهذا موقف تنويري متقدم، يحسب لبدوي . لكن طه حسين - وبحركة ارتدادية، يمكن فهمها، ولا يمكن تبريرها - رأى في هذه المساواة بين الرجال والنساء في نصوص الدستور، مصادمة لقطعيات الإسلام، ولنصوصه الصريحة ! . ولهذا رد على عبدالرحمن بدوي بقوله : " إنه من المقطوع به أن الأغلبية لن تقبل أن تخرج، عند وضع الدستور، على ما أمر به الإسلام، وإنه ليس هناك مقتضى يسمح لنا بأن نعدل عن نص القرآن .. وإنه إذا وجد نص ديني صحيح .. فالحكمة والواجب تقتضيان ألا نعارض النص، وأن نكون من الحكمة ومن الاحتياط بحيث لا نضر الناس في شعورهم، ولا في ضمائرهم، ولا في دينهم، وإذا احترمت الدولة الإسلام فلا بد أن تحترمه جملة وتفصيلا، ولا يكون الإيمان إيمانا ببعض الكتاب وكفراً ببعضه الآخر " . هذا النص الأخير، في أسلوبه ومضمونه، لا يختلف عن منطق أي تقليدي، بصرف النظر عن حظه من الصواب والخطأ . لكن، يبقى السؤال : هل ناقض طه حسين نفسه في ظرف عشرين سنة ؟ . في الظاهر، يوجد تناقض حاد وصارخ . فالذي يعترض على مجرد النص على إسلامية الدولة، ثم يأتي - بعد عشرين سنة - ويختار أشد التفاسير تقليدية لمسائل الحقوق الدستورية للمواطنين، ويبنى أشد الرؤى راديكالية على المستوى النظري، لا بد أن يكون وقع في التناقض والاضطراب . هكذا يظهر . لكن، ماذا لو أخذنا السياق العام للحريات في الثلاثينيات، وطبيعة الوعي النخبوي الليبرالي، الذي نما في ظل الاستعمار، وحقيقة الاستعمار الذي قد يتدخل في الشأن الداخلي ؛ بدعوى حقوق الأقليات، وأن تحقيق أكبر قدر من الاستقلال مقدم - وفق حسابات طه حسين - على استحقاقات هذا الاستقلال ..إلخ . ماذا لو أخذنا كل هذا، وجعلناه مقابل الأوضاع بعد الثورة، وتقدم الشعور الوطني، وظهور حتمية الاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية ..إلخ . كل هذه حقائق ومتغيرات كبرى، لا يمكن أن يتجاهلها المفكر التفاعلي، ولا يمكن أن تكون آراؤه جامدة، بينما التاريخ - كصيرورة - يجري هادرا بين يديه . إن متغيرات الواقع، تتضمن حتمية إجراء تغيرات على النظرية . ونجاعة النظرية - أية نظرية - ليس في استقامة منطقها الداخلي فحسب، وإنما في وفائها بالشرط الواقعي المتغير أيضا . وطه حسين أدرك هذا بعمق . ولقد كان مفكرا حرا وشجاعا، فلم يرهب أن يصمه أعداؤه بالتناقض الفكري، ما دام الاتساق مع مقتضيات الشرط الواقعي متوفرا . ما دام الفكر في خدمة التنوير، فلا ضير أن يتلبس بالأحوال ؛ كي يمكن لفاعليته الفكرية أن تتحقق، ولو بالمقدار اليسير . لم يكن طه حسين مداهنا، وما ينبغي له أن يكون ؛ وهو رجل المصادمات والمعارك الفكرية والإدارية . وهذا الحماس منه للإسلام، بل ولوجهة النظر التقليدية في الفكر الإسلامي المعاصر، نابع من قناعة فكرية، لها ضرورتها في سياقها، ولو على نحو ذرائعي . يؤكد وجود هذه القناعة، أنه كان حين يقتنع برأي يخالف السائد التقليدي، فإنه لا يختبئ برأيه، بل يبادر - قبل أن يطلب منه - إلى المواجهة والتحدي . ولو انه كان يريد مداهنة جماهير التقليدية في موقف كهذا، لجاملهم فيما هو أشد حساسية عندهم، كما في موضوع الاختلاط بين الجنسين في الجامعة . فحينما ضج البرلمان المصري - على يد أحد نوابه التقليديين - ضد ما أسموه ب (منكر الاختلاط في الجامعة) . وقف طه حسين موقفاً شجاعاً، مؤكداً بدعية هذا المفهوم المستحدث، ورجعية هذا الإنكار، بل لقد هاجم - جرّاء - ذلك صديقه : منصور فهمي، الذي ركب الموجة - لمكاسب شخصية - في التشنيع على الجامعة التي يتعلم فيها الجميع ؛ رجالا ونساء، دونما تمييز عنصري، يمارس - ابتداعا ! - مع قداسة التعليم . هذا يدل على أن مواقف طه حسين الإسلامية، نابعة من قناعة ذاتية، وليست تلوّنا ؛ كما يريد بعض معارضيه تصويرها . ومع وضوح هذه المواقف الإسلامية واشتهارها، إلا أن التشنيع، بالتفسيق والتكفير، طال شخصية حسين، بل وتجاوز ذلك، إلى حرمات بيته، عندما فَجَر بعضهم في الخصومة، فعرّض بأن زوجة طه حسين كانت ابنة غير شرعية ! . بل اتهمه بعضهم بأنه اعتنق المسيحية سرا في فرنسا . وحاول بعضهم اتهامه بما ليس فيه اتهام، كرئاسة تحرير : (الكاتب المصري) التي يمتلكها رجال أعمال يهود، أو أن جهة ما، منحته سكرتيرا مسيحيا أو .. .. إلى آخر هذه التهم الجوفاء، التي يتخبط بها أصحابها في ظلمات الجهل والافتراء . وإذا كانت هذه الاتهامات طالت طه حسين في المواقف والآراء العابرة، المرتهنة بسياقاتها الظرفية، فإنها لم تغفل إسلامياته التي ظهرت كمؤلفات مستقلة، تتجاوز السياق الظرفي، إلى مجال الرؤى العلمية الموضوعية، التي تأخذ - بحكم ثبوت الموضوع، وموضوعية الآلية - نوعا من التأبيد النسبي . ف (على هامش السيرة) و (علي وبنوه) و (الفتنة الكبرى) و (مرآة الإسلام) و (الشيخان)، كلها كانت دراسات متعمقة في التاريخ الإسلامي، ومن ثم، في الفكر الإسلامي . ومع هذا، لم تشفع له عند مدعي الإسلامية الذين درجوا على اتهامه في دينه، بل - هي بذاتها - كانت من أدوات الاتهام التي وظفها التقليديون للطعن في عقيدة عميد الأدب العربي . من أشهر من أخذ على نفسه مهمة اتهام طه حسين في عقيدته، أو في مقصوده من وراء إسلامياته، الكاتب الغوغائي : أنور الجندي . فهذا الكاتب، وضع - كما يزعم - طه حسين في ميزان الإسلام . وإذا كان كتاب : (على هامش السيرة) من أجمل ما كتب طه حسين في الإسلاميات، ومن أشدها نضوحا بالإسلامية، فإن الجندي لا يقرأ هذا الكتاب بوصفه إسهاما في الدراسات الإسلامية المعاصرة، وإنما يرى أن طه حسين ألفه بعد انضمامه إلى الوفد ؛ ليؤثر في شريحة أكبر من الجماهير بل إنه يتمادى في اتهامه، فينقل - موافقا - رأي الرافعي، أن هذا الكتاب سخرية، وليس دراسة علمية للسيرة ! . إن تحوّل طه حسين إلى الكتابة في الإسلاميات، ليس - في نظر الجندي وأمثاله - قناعة بالإسلامية، وإنما هو - حسب رأيهم - تغيير في أساليب الهجوم على الإسلام، الإسلام الذي أصبح ملكا خاصا لهم، كما يزعمون أو كما يتوهمون . يقول الجندي : " الدكتور طه حسين غير أساليبه ووسائله في سبيل أن يصل إلى القارئ المسلم . بعد أن كانت أساليبه هي الهجوم على الإسلام أصبحت تقوم على ترضي الإسلام داخليا ودس السم على مراحل خلال البحث " . وطبعا، العسل ما وافق هوى الأصولية التي يمثلها الجندي، والسم، ما خالف فيه طه حسين، رؤية الجندي وأمثاله من مثقفي التقليد . لقد قال البحتري من قبل : إذا محاسني اللاتي أدل بها كانت ذنوبي قل كيف أعتذر لا يمكن الاعتذار أبدا . فلن يرضى عنك المتطرفون ؛ حتى تتوافق معهم - تماما - في الرأي والرؤية . اختلافك معهم ولو بنسبة واحد في المائة، يعني أنك تدس السم في العسل، وأنك عميل تابع للمستشرقين . إنهم أتباع الرأي الواحد . ومن لا يقدم فروض الولاء والطاعة والتقديس لهذا الرأي، ويتنازل عن عقله لهم، فهو ليس عدواً لهم فحسب، وإنما هو عدو للإسلام والمسلمين . وطبعا هم - وليس غيرهم - المسلمون . ومن ثَمّ، فهم التجسد الواقعي للإسلام . والاختلاف معهم يصبح - بضرورة هذا الفهم - اختلافا مع الإسلام ذاته . وطه حسين لم يكن ذنبه أنه جفا - أو تجافى - قيم الإسلام، بل تمثلها، وإنما ذنبه أنه لم يتفق معهم على الرؤية التقديسية للأشخاص، ولم ينظر للأحداث كخوارق، وإنما قرأ التاريخ كما هو، بمنطقه، أي بمنطق التاريخ، وليس بمنطق الوهم الأصولي . إن عقلانية قراءة طه حسين للتاريخ الإسلامي، هي التي أزعجت الوهم الأصولي، وخلخلت الرؤية الحالمة في المخيال العام لهم . وهي الرؤية التي يقتات على فرضياتها، مروجو خطاب التقليد والتبليد . لهذا كانت الفتنة الكبرى، كما يراها طه حسين، صراعا في التاريخ، وليس صراعا خارجه . وجرّاء هذه الرؤية، نجد طه حسين - كما يقول عبدالرزاق عيد - " واجه (الدولة الدينية) في قراءته للفتنة الكبرى، معريا الماضي من أثواب القداسة .. ليظهر التاريخ الواقعي " . وطبيعي أن يُغضِب التاريخ الواقعي، المشدود إلى قوانين الواقع، صانعي التاريخ - الحلم، الذي بدأ يتحطم، بفعل البحث الموضوعي، محطما - بالتبعية - الحلم الأصولي الراهن، الذي يقوم على مشاكلة الحلم التاريخي . إن طه حسين، وهو يحطم الأحلام التاريخية المزيفة، التي تناقض منطق التاريخ ذاته، كان يعي أثر ممارسته الجريئة في الراهن . إنها ليست تشريحا موضوعيا مؤلما للتاريخ، بقدر ما هي جراحة - غير مباشرة - للورم الأصولي الراهن . قراءة طه حسين للتاريخ ليست استغراقا في الماضي، بقدر ما هي قراءة تعتمد التعديل في خريطة العقل العربي والإسلامي، تلك الخريطة التي تلبست بالأحلام، إلى درجة الغرق في الأوهام . طلاء الأحداث والأشخاص بالقداسة، تلك القداسة التي تفترض الحصانة ابتداء، وتوجه تفسير التاريخ ضد منطق التاريخ، طلاء يربك العقل، ويزعزع بدهايته، قبل أن يقضي على بنية العلم، خاصة عندما ترتفع درجة المباينة بين التاريخي والقدسي المتخيل . ومن ثم، فهذا ليس خطرا على العلم فحسب، بل هو خطر على العقل، ومن ثم، على الإنسان ذاته. القداسة المدعاة للتاريخ لا تقف عند حد، حتى وإن أريد لها ذلك . بل تجد من عشاقها ان يقدس الماضي لذات الماضي، أي لكونه واقعة في زمن الحلم الجميل . وهذا عائق علمي، بل وإنساني، لا يثمر غير الجمود، وتعزيز منطق التقليد، إلى درجة تصبح معها عصور الانحطاط، المتفق على انحطاطها، زمناً جميلاً أيضا . ولهذا، لم يعد مستغربا أن نجد من يمتد بفرضيات القداسة المتوهمة، لتشمل العصر الأموي والعباسي، كمتتالية حتمية للبحث عن المستقبل الواعد في الماضي الحلم. هكذا طرح طه حسين إسلامياته، وهكذا كان يؤسس من خلالها للتنوير، ولو من بعيد . طبيعي أن يثور الجامدون القابعون على تلال الماضي ضد هذه الرؤى الموضوعية، سواء كان هؤلاء من القومويين أو الإسلامويين . القوموي لا يختلف عن الأصولي في نظرته إلى التاريخ، بل هو أشد منه عماء، وأقل منه موضوعية . فحتى الوقائع التاريخية المدانة في الخطاب الأصولي، لتجاوزها المنطقة الخضراء للقداسة، تصبح عند القوموي، أمجاد أمة مجيدة، وصنائع شعب مختار ! . ولهذا اضطر طه حسين إلى الرد على القوموي : رفيق العظم، في تقديسه أشخاص الماضي، في العصرين : الأموي والعباسي، ووضع يديه على مرض القومية المزمن . فالعظم - من حيث هو قوموي - لا ينظر إلى التاريخ إلا بوصفه تاريخا مجيدا، صنعه أولئك الأمجاد الأشاوس !، الذين يجب - حسب مضمون منطقه - أن تدرس وقائعهم، بالشعور القومي، وليس بمنطق البحث العلمي الصارم، الذي لا يميز بين تاريخ وتاريخ. ولأن العلم لم ولن يكون إلا لصالح الإنسان، أيا كان هذا الإنسان، ولأن مزج الذاتي بالموضوعي، يقضي على المنهجية العلمية ذاتها، فقد جابه طه حسين متطرفي الإسلامية، ومتطرفي القومية، عندما كتب - بهذا المنطق - إسلامياته، تلك الإسلاميات التي لا بد أن تمس التاريخ القومي بالضرورة . لقد حاول طه حسين أن يبين لهؤلاء وهؤلاء أن العلم شيء، والمشاعر الدينية أو القومية شيء آخر، بل وأراد التأكيد على أن خدمة الإسلام، والتاريخ الإسلامي، لا تكون في التحرّج المرضي من تفسير أحداثه بمنطق التاريخ، وإنما تكون في التأسيس الجاد للقيم العلمية الموضوعية في بيئة المسلمين . إن هذه القيم العلمية، التي تصنع الحاضر ؛ عبر الفهم (العلمي) للماضي، هي القادرة - في رأي طه حسين - على انتشال العرب والمسلمين من واقعهم الأليم .