بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وانهيار الرايخ في ألمانيا ، كانت مدينة «برلين» محتلة من قبل أربع دول كبرى معاً الولاياتالمتحدة وفرنسا وبريطانيا والاتحاد السوفياتي. وفي13أغسطس 1961 شقها الجدار الفاصل الذي يفصل برلينالشرقية عن برلينالغربية ، حيث انشغل العالم كله آنذاك بمهرجان صراع الأقطاب والحرب الباردة ، وبات الجدار هو النموذج المصغر للجدار الحديدي الذي يقسم المعسكر الشيوعي عن المعسكر الغربي . لكن تلك الصورة الموحشة باتت ماضيا الآن ، و «برلين« العنقاء عادت لتحلق من رمادها ، وأصبحت تبيع قطعا من بقايا هشم الجدار كتذكارات سياحية . ألمانيا مصدر عهد التنوير اللوثري الذي شمل أوروبا ثم العالم ، ونبعٌ من الجمال ، وموطن كمّ وافر من الفلاسفة والموسيقيين والآداب والفنون التي أبهرت العالم ، ومن جامعة (برلين) بالتحديد خرج كل من الفيلسوف "هيجل" و"شوبنهاور" اللذين أسهما في رسم الخريطة الفكرية والعقلية للفلسفة في العصر الحديث .. عندما دكت جيوش الحلفاء ، برلين في الحرب العالمية الثانية لم يبق في مبانيها حجر على الآخر ، ولكن الآن داخل جميع مبانيها الأثرية ومتاحفها التاريخية الجميلة ، سنكتشف الإرادة والعزم الجمعي ، بعد أن أعيد إنشاؤها ورممت باتقان ، فهي لم تكن حضارة بنيان تتلاشى بزواله ، هي منجز إنساني لشعب عريق. برلين الآن مشغولة بتطبيب وضخ مزيد من سحر اليورو في عروق جناحها الشرقي الذي اعتقلته الشيوعية لعقود طويلة ، تلمح بصمات تلك العقود في المباني الشرقية الكئيبة والشوارع المتقشفة ، التي قبعت تحت أقبية ثقافة أيدلوجية صارمة كانت لا تحتفي بالجمال والترف وتعتبره عارا رأسماليا . المستشارة (أنجيلا ميركل) الصارمة القادمة من برلينالشرقية ، يسمونها أنجي ويحتفون بها كامرأة شجاعة ونادرة ، ولاسيما أنها تصر على أن تعيش في شقتها القديمة حتى بعد فوزها بالمقعد الرئاسي . ومقابل نسبة مئوية ضئيلة مابرح يفوز بها حزب النازيين الجدد مع خوف وتحرز ضدهم من التيار العام الذي يحمل ذاكرة مدماة حولهم ، إلا أن ألمانيا تحتفل كل صيف بذكرى أبطالها الذين حاولوا التصدي لهتلر ، ويرشق طلاب الجامعة وردة بيضاء على صدورهم تكريما لذكرى بطلتهم التاريخية (صوفيا شول) مؤسسة حزب (الوردة البيضاء) الذي يناهض ويرفض كل مظاهر العنصرية النازية هناك . صادف وجودي هناك تصفيات كأس العالم لكرة القدم ، وكانت فرصة جيدة لاختبار الانضباط والنظام الصارم في الشخصية الألمانية بعد كل فوز قاد ألمانيا للتصفيات النهائية ، ومقارنتها بالفرح المشاغب المتفلت الذي يصيب شعوب الأرض بعد المباريات ، فاكتشفت أن الشوارع كانت ترقص فرحة ومزهوة ، وخرج الألمان ملوحين براياتهم وأعلامهم ، مرتدين ثيابهم الشعبية ، يمخرون الشوارع والأسواق بالأبواق ، ولكن بقي الأمن منضبطا ، وبقي القطار يصل في موعده المحدد بالثانية ، والجميع يقدس الأنظمة والقوانين المرورية ، ولكن مع جرعة زائدة من الفرح . هناك الكثير من المدن الألمانية التي تستوقف الزائر بجمالها وفتنتها ، ولكن "برلين" هي من تلك المدن الغرائبية النادرة التي حين تغادرها ... فهي لا تغادرك.