ثم يطلع علينا اليوم من يرى جواز إرضاع المرأة للأجنبي الكبير سناً، ليزول الحرج في الاختلاط بها؛ بشرط أن يحلب له اللبن من ثدي المرأة في إناء ويسقى يخطئ بعض أصحاب الفتاوى - مع أنه لا يخالجني شك في النيات الصادقة لهم - وذلك حين يخرجون علينا بين فينة وأخرى بفتاوى جديدة، عجيبة، غريبة، لم تسمعها آذان المسلمين المعاصرين من قبل، وهي فتاوى لا تمس جوهر العقيدة، ولم يرد لها ذكر في كتاب الله تعالى ولا في سنّة حبيبه المصطفى - ولا تخدم الإسلام في شيء - بل إني أراها تخدم المناوئين لديننا العظيم، وتساند دعاواهم ضده، وتجعلهم يستندون في طعنهم فيه إلى ما هو غير ثابت في عقيدتنا، بل ويصل بهم الأمر إلى الاستهزاء والهمز واللمز به. ** ** ** حين طلع علينا - منذ أيام قريبة - أحد المشايخ قاطعاً بتحريم مزاولة المرأة للرياضة البدنية؛ أصابتنا الدهشة تجاه هذه الفتوى، فمن أين جاء بها!! وعلى أي أساس ديني أقام فتواه هذه ودافع عنها؟ لقد فاتت عليه المقاصد الشرعية التي تحدد معالم الحلال والحرام، وعليها تقاس كافة الأمور الأخرى.. لقد أيقظت هذه الفتوى الحديثة المواجع عندي؛ فمنذ نحو عقدين من الزمن ناديت بإعطاء العناية الكافية للرياضة البدنية في جميع مؤسسات تعليم البنات على اختلاف مراحلها، وأن تكون بالقدر الذي نوليه في هذا الشأن للبنين، على أن يكون ذلك القدر بما يتفق مع طبيعة الأنثى وتكوينها، والحفاظ على صونها، وحشمتها.. مستذكراً الشعار الداعي إلى أن (العقل السليم في الجسم السليم)، وهذا ما أثبتت صحته وعظيم فائدته كل الدراسات الطبية والعلمية؛ إذ إن مزاولة الرياضة البدنية عامل كبير وأساسي، وحاسم في صحة الجسم، وصحة النفس، وصحة العقل، والرياضة البدنية في أهميتها تتساوى فيها المرأة مع الرجل، مع اختلاف في أسلوب تحقيقها. ** ** ** وحين أثار أحد الناس - في ذلك الوقت - أن هذا الرأي مني مخالف لتعاليم شريعتنا الإسلامية وقيمنا الفاضلة، ونشر ذلك على الملأ؛ توجهت مع إخوان لي إلى سماحة شيخنا عبدالعزيز بن باز - رحمة الله عليه - الذي انتهى بعد الحوار معه إلى أن ممارسة المرأة للرياضة البدنية المحتشمة ليست مخالفة للشرع الحنيف، وأعلن خطأ من آثار الزوابع حول رأيي هذا الذي دعوت إليه، وقد صار الآن حقيقة تملأ الدنيا على مرأى ومسمع من هذا المخطئ لي وأمثاله. واليوم أحمد الله أن منشآتنا التعليمية، والاجتماعية النسوية مهيأة بأحدث وسائل أداء، وتفعيل الرياضة البدنية، فالنساء في أمسّ الحاجة إليها. ** ** ** ثم يطلع علينا اليوم من يرى جواز إرضاع المرأة للأجنبي الكبير سناً، ليزول الحرج في الاختلاط بها؛ بشرط أن يحلب له اللبن من ثدي المرأة في إناء ويسقى.. لا أن تلقمه المرأة ثديها كما تفعل مع الطفل الصغير لأن ذلك لا يحل للكبير. ويقول فضيلته: ما يفيد بأن الإجماع على اعتبار من يرضع من لبن غير أمه يصير مَحّرماً لها إذ هذا ما أجمع عليه فقهاء الأمصار، وإنما اختلفوا في السعوط به، وفي الحقنة والوجور. ليت شيخنا وعى بيقين واقعنا، ولم يردد ما قاله ذلك الفقيه المجتهد في عصر مضى.. ألا يعلم أننا لا نعرف ما المراد بالسعوط، والوجور؟!! كيف يا شيخنا تقبل أن ترضع أو تحلب إحدى قريباتك لبن ثديها وتسقيه لأحد أصحابك..؟! مهما كان العذر الداعي لذلك؟ ** ** ** يا شيوخنا الأفاضل.. فلنقف عند حدود ثوابت الإسلام وقيمه العظيمة.. المعروفة للجميع دون زيغ.. ولا تأويل، ولا نتجاوزها كل يوم بفتوى لمن يظن به العلم بالإسلام، والحرص منه على التقيد بتعاليمه، وإبراز مدى نبل مقاصده وسمو فضائله؛ لكنه بفتاواه الغريبة أحياناً يتجاوز الحدود فيما يفتي بشأنه بمفهوم مخالف؛ فالحدود في شرع الله معروفة.. محدودة.. وسميت حدوداً حتى لا يتعداها أحد أبداً. ** ** ** لا تشغلوا عباد الله كل يوم بفتوى عجيبة، تثير كوامن الشر عند أعداء الدين، وتمكنهم من الطعن في نقاء جوهره.. لقد أعجبتني المواقف الداعية إلى أخذ المبادرات وحسم الأمور؛ وذلك بالسماح للمرأة أن تزاول ما لم يحرمه الله عليها شرعاً ويقيناً، مثل مقولة أحد مشائخنا منذ أيام (إن كان يحرم على المرأة ركوب دابتها فإنه يحرم عليها قيادة سيارتها). وقول شيخ فاضل آخر لي - ونحن نتناقش في مثل هذه الفتاوى الحديثة المبتكرة: (بيدي لا بيد عمرو)، ويعني بذلك أن ما حظر من أعمال على المرأة أن تزاولها سيأتي اليوم الذي تزاوله فيه، فلنسارع نحن في السماح لها بما يسمح الدين لها من أمور بالضوابط الشرعية المرعية. ** ** ** ولقد عجبت غاية العجب في أثناء مشاهدة برنامج حواري تلفازي حول قيادة المرأة للسيارة، إذ أجمع المحاورون أن القضية المطروحة للحوار ليست قضية دينية؛ بل إنها قضية اجتماعية، عندئذ قال أحد المتحاورين: مادام أن قيادة المرأة للسيارة قضية اجتماعية؛ لذا ينبغي أن يؤخذ رأي المجتمع فيها... متى كنا نحيل قضايانا إلى المجتمع ونستفتيه؟!! ثم من قال إننا سنجبر كل النساء على القيادة؟ هذا لم يحدث مع الرجال؟ عجيب أمر هذا الأستاذ الجامعي المنادي بذلك!! وهكذا الأمر فيما يخص تغطية المرأة المسلمة لوجهها - لن يجبر أحد امرأة أن تزيح الغطاء عن وجهها إن رغبت بقاءه.. كما أنه لا يجوز زجرها إذا ما تحجبت الحجاب الشرعي دون غطاء الوجه. ** ** ** واختتم بالقول إن كل ما شرعه الله للبشر ليس فيه ما يدل على دونية أو غبن للمرأة، وأن كل ما دعا الشرع إليه هو ما يحقق رسوخ العقيدة والفضيلة، وكل ممارسة تحقق هذين المعيارين وفق أصولهما هي ممارسة شرعية لا غبار عليها؛ فأصول العقيدة ثابتة، ومعايير الفضيلة واضحة؛ وليس في بعض ما يخرج علينا من فتاوى ما يحقق هذين المعيارين (رسوخ العقيدة والفضيلة) ولأن من تنطوي نفسه على الشر فإنه لن يردعه هذا الحجر القسري، والفصل التام بين الجنسين، وإبعاد كل منهما عن مجال عمل الآخر. ** ** ** إننا في أمس الحاجة إلى الوسطية والاعتدال في المنهج والعبادات عموماً، لا أن نكون مغالين نحكم بالأسوأ من الأحكام على الأشياء والأشخاص، ونسيء الظن بالناس، ولا أن نكون جفاة زلت أقدامهم، أو جمدت أفكارهم، ولا أن نسمح لمن يظنون أن المغالاة هي المعيار لعمق الدين، وصدق الطاعة لله، لا نسمح لهم أن يبرزوا على الملأ ويؤثروا على عامة الناس بأفكارهم وفتاواهم التي يسودها الغلو والتنطع. ** ** ** وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها. اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمدنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد.