أسئلة وقضايا كثيرة, يثيرها المشهد السياسي والأمني العراقي. حيث إن الساحة العراقية اليوم وبالذات بعد الانتخابات النيابية الأخيرة, تمور بأسئلة عديدة, وكل طرف عراقي, يعمل على تقديم إجابته عن هذه الأسئلة لذلك تتعدد الإجابات السياسية والأمنية, عن الأسئلة الكبرى المطروحة في المشهد العراقي. وما يهمنا نحن على المستويين العربي والإسلامي, هو مراقبة التجربة العراقية بكل مراحلها وأطوارها, والعمل على الاستفادة من دروسها وعبرها في مختلف المجالات.. لأننا نعتقد أن الأوضاع السياسية والأمنية في العراق, مليئة بالدروس والعبر الاستراتيجية والسياسية والأمنية, التي بإمكان كل دولنا وشعوبنا العربية والإسلامية أن تستفيد منها.. لقد أثبتت أحداث العراق, أن الاستقرار السياسي العميق في العراق, مرهون بالعودة إلى مفهوم المواطنة الجامعة والمتساوية في الحقوق والواجبات.. وأن استمرار سياسات المحاصصة الطائفية والقومية, هو الذي يقود في بعض جوانبه إلى زيادة التوترات الطائفية في العراق.. فما يجري في العراق اليوم, ليس وليد الصدفة, وإنما هو نتاج طبيعي وتراكمي للعديد من الخيارات الاستراتيجية والسياسية العراقية, التي حولت هذا البلد العربي العريق, من دولة محورية وفاعلة في المشهد السياسي الإقليمي والدولي, إلى ساحة مفتوحة لكل الإرادات والدول, التي تتصارع وتتحارب وتتنافس مع بعضها على الساحة العراقية, ودائما بأشلاء ودماء عراقية.. ولكي لا تتكرر المحنة العراقية, فإن كل العالم العربي والإسلامي معنيّ بمتابعة الشأن العراقي, والتأمل في أحواله, حتى يستوعب الجميع الدروس والعبر المترتبة من الحال العراقية.. فقوة الأوطان والمجتمعات, دائما هي مرتبطة باستقرارها السياسي والأمني.. ولا استقرار حقيقي على هذا الصعيد, إلا بتوافق عميق وتفاهم إستراتيجي بين كل المكونات والأطياف... ومن يبحث عن الاستقرار السياسي والأمني, بعيدا عن هذا الخيار, فإنه لن يصل إلا إلى المزيد من تنمية العوامل والأسباب التي تهدد الأمن والاستقرار.. والقوة الحقيقية للدول, ليست في ترسانتها العسكرية وجيوشها الجرارة, بل في حياتها السياسية والمدنية القائمة على المشاركة والمسؤولية التي يشترك الجميع في صنعها وحمايتها.. والتجربة العراقية تثبت لنا, وبشكل لا لبس فيه أن القوة الدائمة والفعالة للشعوب والأمم, هي القوة المستندة إلى انسجام الخيارات الاستراتيجية بين الدولة والمجتمع.. فإن هذا الانسجام, يوفر أوضاعا وأحوالا سياسية واجتماعية وأمنية متينة وغير قابلة للاختراق مهما كانت الضغوطات أو الإغراءات.. لهذا فإننا جميعا معنيون, بمتابعة الشأن العراقي, والتأمل في أحداثه وأحواله, حتى يتسنى لنا استيعاب دروسه وعبره. وأود في هذا المقال, أن أسلط الضوء على بعض الدروس والعبر المستفادة من الحدث العراقي, وهي تساهم بشكل أو بآخر في استقرار المجتمعات والحفاظ على أمنها العميق. 1 لعل من أهم الدروس المستفادة من الأزمة العراقية بكل فصولها أن الشحن الطائفي والتعبئة المذهبية, لا يبنيان استقرارا سياسيا, ولا يحافظان على أمن الأوطان.. فأغلب الأطراف في العراق بشكل أو بآخر, استخدمت السلاح المذهبي, وعملت على تعبئة شارعها وجمهورها بعناوين مذهبية وطائفية, ولكن جميع الأطراف وصل إلى قناعة راسخة, وهي أن هذه التعبئة المذهبية, لا تبني دولة عراقية جديدة, ولا تحافظ على أمن ومكاسب أحد.. لهذا اتجهت جميع الأطراف العراقية في هذه الفترة إلى تشكيل الكيانات السياسية المفتوحة على كل التعبيرات والأطياف. واقتنع الجميع أو أغلب الفعاليات والمكونات السياسية العراقية, أن العراق الجديد, لا يبنى إلا بأيدي العراقيين جميعا.. وأن عمليات العزل والتهشيم والتحطيم والفتن المتنقلة, التي جرت بعناوين طائفية ومذهبية, لم تستطيع أن تنجز استقرارا, ولا يمكنها أن تحافظ على أمن ومكاسب أحد.. لهذا فإننا نعتقد وبشكل جازم: أن سلاح الفتنة الطائفية, لا يخدم إلا أعداء أمتنا وأوطاننا. وأن القبول ببروز التعبئة الطائفية والمذهبية, يهدد استقرار كل الأوطان والمجتمعات. وندعو في هذا السياق كل الحكومات العربية والإسلامية ومؤسسات المجتمع المدني والفعاليات الدينية والمدنية, للوقوف ضد كل محاولة تستهدف زرع الفتن الطائفية والمذهبية في أي مجتمع عربي وإسلامي. فجميع المذاهب الإسلامية, حقيقة راسخة في الاجتماع العربي والإسلامي, ولا يجوز بأي حال من الأحوال التعامل مع هذه الحقائق بعقلية النبذ والاستئصال.. 2 إن الأوضاع السياسية والأمنية الجديدة في العراق, تثبت أن جميع الأطراف والمكونات تحتاج إلى بعضها البعض.. فلا يمكن لأي طرف في العراق, أن يفكر أو يعمل من أجل الانتصار الكاسح والنهائي. فالعراق الجديد يجب أن يشعر الجميع فيه أنه منتصر ورابح, وأن أي ممارسة أمنية أو عسكرية أو سياسية, تستهدف دفع أي طرف في المشهد العراقي للشعور بأنه الطرف المنهزم في المعادلة الجديدة, فإن هذا الشعور, سينعكس سلبا على أمن العراق واستقراره السياسي .. لهذا لا يمكن أن تتشكل حكومة سياسية في العراق من لون واحد أو طائفة واحدة.. فالعراق الجديد يتسع لجميع أبنائه ومكوناته, وينبغي أن يشعر الجميع فيه بالمشاركة والتمثيل. وهذه الرؤية التي تؤكدها أحداث العراق وأحواله الأخيرة, تؤكد لنا في العالميين العربي والإسلامي, أهمية أن تشترك جميع المكونات والأطراف في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية العامة. لأن أي نزعة إقصائية أو استئصالية, لأي طرف من الأطراف, مهما كانت مبرراته أو عناوينه, فإنها ستنعكس سلبا على أمن واستقرار ذلك المجتمع.. فالأوطان يجب أن تسع الجميع, وتستوعبهم في الأطر الوطنية المختلفة.. فسياسات الانتقام وتصفية الحسابات, وأن يؤخذ الجميع بجريرة البعض, لا تفضي إلى استقرار المجتمعات, ولا تصون مكاسب أي طرف من الأطراف. بل على العكس من ذلك تماما. حيث إنها تؤسس للعنف والعنف المضاد والحروب الداخلية المفتوحة على كل الاحتمالات والتي لا يتورع فيها أحد عن القتل والتدمير والتفخيخ, كما أنها تحول البلد بأسره إلى بلد مكشوف من الناحية الأمنية والسياسية.. 3 لقد أثبتت أحداث العراق, أن الاستقرار السياسي العميق في العراق, مرهون بالعودة إلى مفهوم المواطنة الجامعة والمتساوية في الحقوق والواجبات.. وأن استمرار سياسات المحاصصة الطائفية والقومية, هو الذي يقود في بعض جوانبه إلى زيادة التوترات الطائفية في العراق.. فالسني العراقي يجب التعامل معه, بوصفه مواطنا عراقيا له كل الحقوق وعليه كل الواجبات, وكذلك الشيعي والمسيحي والتركماني والكردي العراقي.. فالمواطنة العراقية تستوعب جميع هذه العناوين وهو العنوان (أي المواطنة), القادر على إخراج الجميع من عناوينهم الضيقة والتقليدية إلى رحاب المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات. لذلك فإننا نعتقد أن العراق الجديد, أحوج ما يكون إلى تعزيز ثقافته الوطنية, التي اشتركت جميع الأطراف والمكونات في بنائها وتأسيسها.. وأن المحاولات السياسية والأمنية, التي تضغط من أجل استمرار إبراز انتماءات ما قبل الدولة الحديثة, هي تضر براهن العراق ومستقبله. من هنا فإننا نعتقد أن كل المجتمعات العربية والإسلامية وفي زمن انفجار الهويات الفرعية, بحاجة إلى إطلاق مشروع وطني متكامل, قادر على استيعاب كل العناوين التاريخية الموجودة في بوتقة المواطنة.. وحدها المواطنة بكل حمولتها الحقوقية والدستورية, هي القادرة على صيانة وحداتنا الوطنية والاجتماعية, في زمن كثرت فيه الانتماءات التقليدية, وتعاظمت مخاطر التشظي الأفقي والعمودي.