ليس أشهى وأعذب وأحلى من الكلمة الرقيقة المموسقة ، تسافر بك على جناح نجمة مبللة بندى الغيمات ، تأخذك إلى مواطن العشق والوجد والدهشة ، تذيبك في عوالم محرضة على فعل الانصهار والغياب داخل ذوات الآخرين وأرواحهم وعواطفهم، وتحرضك على أن تتحول إلى كائن شفاف تأسره نغمة ، وتذيبه بسمة ، وتمزق فؤاده العيون النجل ، وشلالات الشعر المنسدل كما ليل أسطوري ، وتعود بك إلى قوافل العشاق وجنونهم العظيم والمبهر، ولقاءات الرائعين من بني عُذرة مع حبيباتهم وعشيقاتهم في لحظات مسروقة من الزمن ، وإن كان الزمان كله وسديمه هو ذلك اللقاء الذي يختصر العمر ليكون تلك اللحظة الشهية التي تتفاعل فيها كيمياء الأرواح والرغبات . وكما أن الإنسان ابن بيئته ، ونتاج تراكم ثقافة مجتمعه ، فالكلمة أيضا بنت بيئتها ، وصورة صادقة الدلالات والمعاني لأنماط العيش فيها ، وإيحاءات صور وفضاءات الجغرافيا التي انطلقت منها ، وولدت من رحمها ، ولعلنا نتذكر الجميل علي بن الجهم وهو بدوي جلف بيئته الكلب الذي يرافقه في رحلات الصيد ، والماشية التي يجوب بها الصحراء ومتاهاتها بحثاً عن مورد ماء ، وعن مكان معشوشب تطفئ جوعها من نباته . ونتذكره عندما عاش حياة الترف الباذخ، واكتحلت عيناه بأجساد العذارى المُستفِزة والطاغية في تكويناتها ، وتجليات اندفاعاتها المغناجة نحو مياه دجلة في حالة جوع للفرح والدهشة والمرح والحب . شاعرنا الشعبي الذي لايتكرر كثيراً ، ولن يتكرر الرائع ابن سبيل في صورة إبداعية من صوره يقول: "عليه قلبي بين الاضلاع يومي أوماي صقار لطيره ولا جاه الطير عانق له طيور تحومِ ثم ارتفع يم الخضيرا وخلاه صورة مدهشة وثرية ومؤثرة لإنسان الصحراء ، ومكانة الصقور عند الناس ليس لأنها سلوك ترف وبذخ ، ولكنها تطعم أفواهاً مفتوحة ، وتعطيها القدرة على الاستمرار في الحياة . والعيش بسلام وأمن غذائي في أزمنة القسوة والوجع. إذن .. الكلمة كائن حي ، يتحرك ، يتفاعل ، يسافر طويلا عبر مناخات متغيرة ومحرضة ، لكنها تتجانس مع البيئة التي نبتت فيها ، وهذا مايتجلى من خلال الكلمة القادمة من بيئة مائية ، ومَواطن الطبيعة والخضرة ، حيث تقرأ وتنتشي بصور خرافية . " دقت على صدري ، وقالت لي افتحو تاشوف قلبي كان بعدو مطرحو وان صح ظني وشفت لو عندك رفاق بسترجعو ، وم بعود خليك تلمحو بسترجعو ، وبنسى ليالينا العتاق قلبي ان هجرتك بيذبحو مرّ الفراق وان ظل عندك ، كل يوم بتذبحو " صورة ذابحة مجنونة . وأخرى أكثر ذبحا ، وأرق عذوبة. " فايق ع سهره ، وكان في (ه ) ليل وندي والنار عم تغفى بحضن الموقدِ والعتوب مسافره ، ومافي كلام ولا هدِي قلبك ، ولا قلبي هِدي ونام الحكي ، والناس ، وانهد السراج وتكيت خصور الورد ع كتف السياج وفل القمر ع ضيعتو ، وفل الدراج وبقلك بقش بكير ، وتقللي اقعدي " صدقاً ، الكلمة خلود ، الكلمة لاتفنى ، لاتموت ، تظل تطهر الروح ، والنفس ، والوجدان ، وتهذب السلوك ، والعلاقات، سيما إذا غرّد بها ذلك الكائن المبهر الشفاف العظيمة " فيروز " التي تبرر لنا الحياة ، وتخفف أوجاعنا وانكساراتنا .