لا تأخذ القصيدة مكانها في خارطة الروح إلا عندما تكون نابعة من وعي الطبيعة، ومن تماس مخيلة الشاعر مع الواقع، ليس الواقع المألوف فقط، وإنما الواقع الذي يكون دائماً نتاج اختلاط تفاصيل الشاعر الداخلية بتفاصيل الكون من حوله، القصيدة التي تمتزج أدواتها بالحلم حيناً، وبالوعي حيناً، وبالخيال المحرّض على تجاوز الأسئلة المألوفة في كثير من الأحيان. والتأمل هو الذي يقود الشاعر ليكون خارج وعيه المألوف؛ لأن التأمل كما ذكرنا سابقاً هو التخلّص من الذهنية العالية، والتركيز، وعندما يبدأ الشاعر في صنع قصيدته، لا يقصد ولا يقرر ولا يحدد ولا يختار مسار القافية والأوزان، لكونه يكتب بعيداً عن الالتزام بمنطق الكتابة، يكتب نافياً ذاته وعقله وحاضراً بروحه وبطبيعته، والتعبير الشعري الذي يعتمد على الإيصال، ويطرح الإجابات فقط لا يكون نامياً بذاته وإنما نامياً بموضوعه، والشعر ضد الموضوع وضد الارتباط أصلاً، الشعر يناقض الانتماء، والكتابة في الموضوع، انتماء يشوّه الشعرية ويقتل حرية التشكّل التي تعيشها القصيدة وهي تبحث عن وجودها في فضاء الكتابة. ولو أمعنا النظر في القصائد ذات الموضوع المحدد وأعدنا قراءتها، لأدركنا كيف يمكن للشعر أن يفقد صوته الحقيقي، وبراءته وهو يمر عبر القافية المحددة والمعنى الثابت والصورة النمطية والرؤية التي تكون عادة في مثل هذا السياق رهينة الأسلوب وأسيرة أدواته التقليدية، والتأمل في عمق معناه يمكن أن يخلّص القصيدة من هذا القيد، حينما يفرض على الكتابة حرية تتوق إليها، ويسير بها في دروب وعرة في طبيعتها، عميقة مبهجة في هدفها، وهنا يكون الشاعر كائنا تأمليا، قادرا على سبر غور ذاته، ويكون أكثر فهماً للواقع انطلاقاً من فهم نفسه، فكثيرون هم الشعراء الذين يكتبون وهم خارج فهم الذات، لكونهم يخوضون في موضوعات خارجية، وينطلقون في صياغتهم الشعرية من قطيع المعاني الذي يقوده المجتمع، من دون أن يدركوا أن الشعر هو تأمل واكتشاف للواقع الخارجي، انطلاقاً من اكتشاف الداخل الذي يصنع التأمل أولى خطواته!! فالحب يعبر عنه من خلال القصيدة، لدى أكثر الشعراء، من خلال فهم الآخرين وإدراكهم العقلي له، ويكون حاضراً في معظم القصائد بنفس الصورة التي ظهر من خلالها عبر كافة العصور، وهذا الأمر ينطبق على معظم المعاني والمفردات في حياتنا، فلا يمكن لنا أن ننتظر من شعر تناسخي كهذا أن ينقذ أرواحنا من وهج السأم الحارق وأن يعيد لأرواحنا ألقها الكوني الشاسع!! أخيراً: وحده الماء يستطيع، يجمع أشتات القطيع!!