الإحساس هو أحد الأشياء الجميلة التي يتميز بها الإنسان عن كثير من المخلوقات، ولكن الإحساس المفرط كثيراً ما ينقلب وبالاً على صاحبه ويورثه مزيداً من الشقاء والمُعاناة، وللأديب الراحل حمزة شحاته -رحمه الله- عبارة جميلة حول الإحساس وأثره في مدى الاستمتاع بالحياة، وهي عبارة صادقة إلى حد بعيد ويُمكن أن نجد انعكاسها لدى عشرات الشعراء (أو قد تكون هي ذاتها انعكاساً لتلك الأشعار أو لتجربة شحاته الشخصية)؛ يقول شحاته: "كُلما قلَّ نصيبك من الإحساس، وجدت الحياة مُمتعة"!. ومنذ الجاهلية والشعراء يُعبرون عن مُعاناتهم مع رهافة إحساسهم بقسوة الحياة وبالاغتراب وبالموت وكذلك بثقل الهموم بأساليب قد تحمل بعض الغرابة، ومن أبرز الأبيات التي لفتت انتباه النقاد بيت الشاعر تميم بن أبي مقبل الذي يقول فيه: ما أطيب العيش لو أن الفتى حجرٌ تنبو الحوادث عنه وهو ملموم فالشاعر لا يجد للتعبير عن حاجته للراحة ورغبته في عدم التأثر بقسوة الزمان وأحداثه الموجعة أفضل من تمني تحجر مشاعره، وتحوله من حالته الإنسانية إلى حالة جامدة ككتلة صخرية صماء قادرة على الخلود ومقاومة قسوة الأيام، ويقول النمر بن تولب في نفس المعنى مع إمعان أكبر في التمني: ألا ليتني حجرٌ بوادٍ أقامَ وليت أمي لم تلدني وقديماً أيضاً تساءل المتنبي بحزن عن سر عدم تأثير الخمر والأغاني في عقله ونفسه، وكأنه قد تحول بفعل المعاناة والاغتراب إلى حجر أصم لا يطرب ولا يتأثر بما حوله: أصخرةٌ أنا، مالي لا تُحركني هذي المُدامُ ولا هذي الأغاريدُ إذا أردتُ كُميت اللونِ صافيةً وجدتها وحبيبُ النفسِ مفقودُ ولو التفتنا إلى الشعر الشعبي لوجدنا العديد من الشواهد التي تدور حول فكرة (تصخر المشاعر)، ففي القصيدة التي تنازع عليها المبدعان عبدالعزيز الفراج وسلطان الهاجري يحسد الشاعر الصخور لصلابتها وقدرتها على مُقاومة رياح الزمن، وهو الشيء الذي عجز عنه أصلب وأقوى الرجال من بني البشر: واهني الصخرة اللي ما تحرقها السموم والزمان اللي يهد العزم ما هدها الزمان اللي تحدى قويين العزوم لين مشاها على ود ما هو ودها وللشعراء تنويعات مختلفة على أمنية تميم بن أبي مقبل جميعها تُعبِّر عن تمني تحجر المشاعر والقدرة التغلب على الهموم والوقوف في وجه الزمن، فالذي ينعم براحة البال في هذه الحياة بحسب بيت الأمير محمد السديري المشهور هو فاقد العقل أو المجنون الذي لا تستطيع الهموم والأحزان إغراقه في دوامتها: المستريح اللي من العقل خالي ما هو بلجات الهواجيس غطّاس ما هو بمثلي مشكلاته جلالي أزريت أسجلهن بحبرٍ وقرطاس إضافة إلى هذه الشواهد فثمة عشرات القصائد التي يحسد فيها أصحابها الجمادات والحيوانات وفاقدي العقول والمشاعر من البشر لأنهم أكثر راحة من ذوي الضمائر الحية والأحاسيس المرهفة، ويؤكدون فيها على صحة مقولة شحاته: (كلما قلَّ نصيبك من الإحساس، وجدت الحياة ممتعة).