هناك شعراء نظموا في الحكمة قصائد كاملة (كمقصورة ابن دُريد) وأكثر أشعار صالح بن عبدالقدوس، ولكنها كانت حكماً باردة تنظيرية لا توجد فيها حرارة العاطفة ولا خيال الشعر ولا احتراق المعاناة.. حكمة صدرت من تأمُّل بارد وبرج عاجي، فهي أقرب إلى النظم منها إلى الشعر، ومع وجود الوزن والقافية إلا أنها تخلو من الروح أو تكاد فهي مجرد أجساد باردة لا حياة فيها تقريباً، لهذا سنضرب عنها صفحاً ونختار بعض أشعار الحكمة الحارة النابضة بالمعاناة والحياة.. يقول المتنبي وقد تأثر جداً من سيف الدولة الذي فضل غيره عليه وفي ثناياها حكم تفور حرارة: «وا حرَّ قلباهُ ممن قلبه شبم(1) ومن بجسمي وحالي عنده سقم مالي أكتم حباً قد برى جسدي وتدعي حب سيف الدولة الأمم؟؟ يا أعدل الناس إلا في معاملتي فيك الخصام وأنت الخصم والحكم أعيذها نظرات منك صادقة أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم وما انتفاع أخي الدنيا بناظره إذا استوت عنده الأنوار والظلم إذا رأيت نيوب الليث بارزة فلا تظنن أن الليث يبتسم يا من يعز علينا أن نفارقهم وجداننا كل شيء بعدكم عدم إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألم كم تطلبون لنا عيباً فيعجزكم ويكره الله ما تأتون والكرم إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا أن لا تفارقهم فالراحلون هم شر البلاد بلاد لا صديق بها وشر ما يكسب الإنسان ما يصم وشر ما قنصته راحتي قنص شهب البزاة سواء فيه والرخم» * * * ولشاعرنا الكبير محمد بن أحمد السديري (وفي ثنايا القصيدة تنطق الحكمة الحارة): «يقول من عدى على راس عالي رجم طويل يدهله كل قرناس، في راس مرجوم عسير المنالي تلعب به الأرياح مع كل نسناس في مهمه قفر من الناس خالي يشتاق له من حس بالقلب هوجاس قعدت في راسه وحيد لحالي براس الطويل ملابقه تقل حراس مندكر في مرقبي وش غدا لي وصفقت بالكفين ياس على ياس أخذت أعد أيامها والليالي دنيا تقلب ما عرفنا لها قياس كم فرقت بين غالي وغالي لو شفت منها ربح ترجع للإفلاس يقطعك دنيا ما لها أول وتالي لو أضحكت للعين تقرع بالأجراس المستريح اللي من العقل خالي ما هو بلجات الهواجيس غطاس ما هوب مثلي مشكلاته جلالي ازريت اسجلهن بحبر وقرطاس حملي ثقيل وشايله باحمالي وأصبر على مر الليالي والاتعاس لا خاب ظني بالرفيق الموالي ما لي مشاريه على نايد الناس(2) لعل قصر ما يجيله ظلالي ينهد من عالي مبانيه للساس هوامش: (1) شبم: بارد. (2) نايد: بعيد.