ما تم عرضه في المقال السابق من مشاهد كوميدية واقعية مأخوذة من إعلام المتطرفين ، هو استعراض من زاوية : كون تلك المشاهد مجرد صور كاريكاتورية للعناية المفرطة بالمظهر، العناية المفرطة إلى درجة الهوس والتخبط والحيرة في التعامل مع هذا الوضع الجديد . لكن ، وللإنصاف ، يوجد منهم في المقابل من هو على النقيض تماما من ذلك ، أي في غاية الابتذال . وهي كالمشاهد السابقة ، مشاهد كوميدية ، حيث يرى المُراقب المشاهدَ والسلوكيات والأزياء التي يمكن له أن يراها في عالم الواقع ، واقع المتطرفين . في إعلام المتطرفين ترى المتطرف ، مقدما كان أو ضيفا في حالة رثاثة ، حيث الشماغ ملقى على الرأس كيفما اتفق ، لا يهم أين يوجد مركزه ولا كيف يكون استواؤه ولا على أي جانبيه يميل . لا شيء متسقا ، لا في الأزياء ولا في الحركات . لا استقرار ، يتساقط من على كرسيه بل ويتهاوى ، ينفعل ، يتراجع الشماغ إبان لحظات الانفعال أو الهياج أو (التفكير الحاد!) إلى الوراء كثيرا ؛ لتظهر ( الطاقية البيضاء) كاملة للعيان ، خاصة بعدما تصل رحلة الشماغ المنزلق إلى أسفل القذال من الخلف . بين الحين والآخر ، وخاصة عندما يحس بالأضواء تلفح قذاله المكشوف ، يمد يده بحركة شبه عفوية وشبه اعتيادية ! ، فيجتذب الشماغ من أقصى قذاله ليعيده إلى ما يقارب أرنبة أنفه . وحينئذٍ ؛ يختفي الوجه ، ثلاثة أرباعه على الأقل ، وتبدو الصورة مضحكة ، إذ لا ترى إلا شماغا يتحدث . لكن ، مرة أخرى ، وبسبب حركات الانفعال البهلوانية يعود الشماغ غاضبا إلى الخلف ؛ ليقع موقع ( عباءة الكتف ) التي يفتون بتحريمها . بين الشد والجذب ، تضطرب الحركات ، لا يستطيع ملاحقة ما يجري ، فهو في حرب كلامية شرسة ، الأنياب حادة ، ومن شدة الهياج قد بدت من أصولها ، والعينان تدوران حتى يختفي سوادهما لثوانٍ معدودة ، ثم يعود كالذي يغشى عليه من الموت..إلخ . هذا مشهد حقيقي من المشاهد المتكررة المتعلقة بالحركات . أما من حيث الكلمات فهي في الغالب متعثرة ، وإخراجها يحتاج إلى جهد جهيد ، وكأنما هي تَقتلع بخروجها ثوابتَ الأضراس . أحيانا ، الأشداق ممتلئة بالهواء الفارغ الذي يُزاحم الكلمات ، فيبدو تجويف الفم وكأنه ميدان معركة وهمية مكتومة . هنا ، تضيع كثير من الحروف ، وخاصة حرف ( الراء ) المهضوم دائما والذي يُمارس حرف الغين اغتصابه بكل وحشية إلى درجة الالتهام التام . بعض الحركات المرافقة للعبارات الاستغرابية الاستغبائية تثير السخرية والاشمئزاز ، من حيث درجة السذاجة الفاضحة التي توحي بها والتي تصل حد البلاهة ؛ خاصة عندما يريدون رفع درجة الاستغراب بالقوة عند المشاهد . لا اعتدال ولا عفوية ، إما هذه الحركات البهلوانية والأيادي الصاعدة الهابطة للتعبير عن اتجاهات الموقف ، وإما التخشب والتصلب في الجلسة إلى درجة أن التمثال المتحرك يصبح أكثر حيوية من بعض المقدمين والضيوف . هذا التصلب والتخشب يكون أحيانا مقابل الضحك الهستيري المفتعل من بعضهم بغية اجتذاب فئة المراهقين . افتعال الضحك يُفتضح من خلال التدقيق في المشهد ، إذ الفم يُجبَر على الابتسام بالكشف قسرا عن الأسنان ، بينما لغة العينين ولغة القسمات اللاإرادية تُعبر عن عبوس متوحش . لغتان متضادتان ! . قد يتم دعم ذلك أحيانا باستخدام ما يسمونه : ( النكت الهادفة ) ولكنها لا تكون مضحكة بتاتا ؛ لأنها مستمدة من بيئة التطرف الكئيبة ، ومع هذا يجري التضاحك لها احتسابا! ، من باب : (تكثير سواد نكت المتطرفين) فيصبح اعتساف الضحك مضحكاً بحد ذاته ، أي في طيبة افتعاله ، وهنا تبدو كآبة الضحك أو ضحك الكآبة ، لا فرق ، تمتزج المتناقضات أو تحترب ، ولا فرق أيضا ...إلخ المشاهد التي تعكس فضيحة إعلام المتطرفين . إن كل هذا يبدو في حال كون المقدمين والضيوف يلبسون أزياءهم ذاتها ، أي التي اعتادوها . لكن ، يجري أحيانا استضافة بعض المتطرفين من أنحاء العالم العربي ، والذين هم من التيار المتطرف نفسه ، أي يدينون بالتقليدية عن قناعة أو عن اكتساب وهو الغالب . وبما أن أولئك المرتزقة يتوجهون بأنوف نفعية إلى حيث المال والشهرة والدعم ، فهم يضطرون إلى التخلي عن أزيائهم الخاصة لصالح النمط الشكلي للمتطرف المحلي . تظهر الأزياء نفسها ، والسمت العام نفسه ، وطريقة الحديث تصل حد التطابق حتى في أدق التفاصيل ، حتى اللهجة يُحاولون جاهدين جعلها متقاربة مع لهجة مُلاك الفضائيات المتطرفة التي تدفع لهم بسخاء . هؤلاء المُلاك المتطرفون يقومون بتشجيع أولئك على مثل هذا الظهور المزيف المتزلف ؛ حيث يدركون أن جماهيرهم التقليدية المنغلقة لا تثق إلا بالنمط المحلي من المتطرفين ؛ كجزء من حالة الاعتياد التي تكشف عن سيكولوجية الاطمئنان إلى المألوف ؛ لهذا يجري تزوير المظاهر باتفاق ضمني بين الطرفين . وهنا تقع المهزلة ، بل فضيحة النفاق السلوكي ، فمن لم يعرف غطاء الرأس الخليجي طول عمره ، تجده قد لبس الغترة أو الشماغ بطريقة كوميدية ، هي أقرب إلى الصور التي نراها في الأفلام الغربية ؛ عندما تريد تلك الأفلام تصوير شخصية خليجي في مشهد عابر ؛ فتضع على رأس أحد الكومبارس قطعة من القماش المربوط بحبل غسيل !. ولكنها تبقى في كل أحوالها أذكى من إعلام المتطرفين ؛ لأنها تحرض في الغالب على أخذ الصورة من بعيد ؛ حتى لا تزيد التفاصيل من كشف عملية التزييف !. بينما نجد إخواننا المتطرفين يُلصقون الكاميرا برأس الضيف المزيف بزي لم يعتده ، فتكشف التفاصيل درجة الافتعال . ولأن الأغلبية الساحقة من المتطرفين لا يمسكون بأي منصب علمي اعتباري ، ولا ينتمون في الغالب لأي مؤسسة رسمية أو شبه رسمية ، وبما أنهم مجاهيل ، وحينئذٍ لابد من التعريف بهم إبان تقديمهم كضيوف في قنوات التطرف ، فقد بدأت الإحالة الاعتبارية إلى مواقع مجهولة ، لا يعرفها إلا أفراد معدودون بالعشرات في أحسن الأحوال . فالتعريف بالضيف المتطرف يكون غالبا بأنه المشرف على موقع كذا وكذا ! ، أي أحد المواقع الإلكترونية المتطرفة . وبما أن المواقع ذات الطابع الديني هي بعشرات الألوف على المستوى المحلي ، فهم متأكدون أن أحدا لن يتابع ، ولن يسأل أحد عن القيمة الاعتبارية لهذا الموقع المذكور . أي أنه تعريف مَن لا تعريف له ، إحالة مجهول على مجهول . لا شك أن هذا التعريف بالمجهول هو من ضرورات الحاجة إلى من يُصرّح بآراء متشددة بل وتكفيرية ، آراء لا يستطيع المنتمي إلى موقع اعتباري التصريح بها ؛ حتى ولو كان يعتقد مذهب التطرف ديناً ؛ فالحاجة وحدها ألجأتهم إلى المجاهيل ، والحاجة كما يقال أم الاختراع ، اختراع تعريف المجهول بالمجهول لإيهام المُشاهد الجاهل بكون الضيف المجهول معروفا ، أي لشراء القيمة الاعتبارية للضيف بواسطة جهل المشاهد ، من أجل تمرير خطاب التطرف والإرهاب!. إن كل هذه الصور هي صور واقعية مأخوذة من واقع إعلام المتطرفين ، وغيرها كثير جدا . والغريب أن بعض القراء تصور أنني أمارس السخرية بعرضي لمثل هذه الصور الساخرة ، مع أنني أكدت أنني لا أقصد السخرية بحال فلا وقت للسخرية ، والأمر أعظم من صناعة مقال ساخر ؛ فضلا عن كون الأسلوب الساخر ليس من طريقتي . ومع هذا ، فالمشاهد ساخرة جدا ، المشاهد بذاتها وليس عرضي لها . أنا عرضت المشاهد كما هي ، ولا توجد صورة واحدة في هذا المقال أو المقال السابق ليست موجودة بتفاصيلها المنقولة في إعلام المتطرفين . ما فعلته كان مجرد تصوير مشهد من الواقع . وكون الجمهور المُشاهِد أو القارئ رآه مُضحكا وساخرا ، لا يعني أن الكاتب / المُصوّر ( تعمّد ) السخرية ، أو أنه كتب لمجرد السخرية . السخرية لا تنبع من طريقة تصويري ، بل هي تنبع من تفاصيل المشهد الكوميدي الموجود بصورة أوضح وأفضح على تلك القنوات الذكورية المتطرفة . إن أي متطرف يرى فيما عرضته من مشاهد منقولة بالنص عن إعلام المتطرفين شيئا من السخرية ، فهذا بحد ذاته اعتراف صريح منه أنه ينتج في إعلامه مشاهد ساخرة . وهو بهذا يثبت أنه بحماقاته الإعلامية يسخر بنفسه من نفسه دون أن يدري ! . المتطرف ، إما أن ينكر أن هذه المشاهد موجودة في إعلامه ، وهذا مستحيل ؛ لأنها مشاهد تبث على مدار الساعة ويراها الجميع ، وإما أن ينكر أنها ساخرة ، وحينئذٍ ، لا يحق له أن يعتبر ما كتبته من باب السخرية ، بل من باب الدعاية له بالنقل الأمين . ومما يؤكد أنني لم ( أتعمّد ) السخرية بحال ، أن ما عرضته لم يكن تصويرا للسمات الشخصية غير المكتسبة ، أي أنني لم أمارس عرض أية صفة من الصفات الجسدية أو العقلية الملازمة للإنسان قَدَرَا ؛ لأن هذه صفات ملازمة ؛ لا اختيار للإنسان فيها ، ولا يؤدي عرضها إلى الدفع لتجاوزها ، بل إن عرضها وهي قدر جسدي أو عقلي ، لا يكون إلا مجرد سخرية حانقة لا تعبر إلا عن حقد دفين . وأنا لا أحمل لإخواني المتطرفين حنقا ولا حقدا ، بل أحمل لهم من حيث المبدأ الحب العميق ، رغم استشعاري لخطورة منهجهم وضرورة التصدي له بلا هوادة ؛ مع الدعاء لهم بالهداية . إذن ، فنقدي لهم ، كما أنه لصالح المجتمع المظلوم الذي يهددونه ، فهو لصالحهم في النهاية ؛ بكف أخي الظالم عن ظلمه . لهذا ، لم أشتغل إلا على عرض الصفات المكتسبة التي يمكن تغييرها ؛ لأضعها في دائرة الضوء / النقد . لابد من الاستبصار بالسلوكيات الخاطئة التي يمكن تغييرها إلى الأفضل . حتى عيوب النطق التي تبدو وكأنها عيوب ملازمة ومستحكمة ، بالإمكان تجاوزها بالتدريب الجاد طويل المدى ، بل يمكن تجاوزها بتغيير المهمة التي تصطدم بهذا العجز؛ إذا ما استحال تجاوزه . فمن لا يحسن التقديم قد يحسن الإعداد أو الإخراج أو التصوير أو الإشراف . ولكل وظيفة شروطها المهنية ، التي لا تنطبق بالضرورة على الوظائف الأخرى ، حتى داخل دائرة العمل الواحد . والإنسان في موقعه المتوافق مع إمكاناته وقدراته العقلية والجسمية سيكون أنفع وأجدى لنفسه ولغيره ، وأقدر على تحقيق النجاح الخاص والعام . لقد خدع إعلام المتطرفين شريحة كبيرة من المجتمع ؛ بتوظيفه المفردات الدينية في خطابه المُوجه لجماهير متدينة . بعض ( الطيبين ) ممن يحسنون الظن في الهدف النهائي لإعلام المتطرفين ، يريدون الدفاع عنه بتسميته : الإعلام الهادف . يطلقون عليه هذه التسمية ليضعوا له حصانة ضد النقد ، ومن ثمَّ ، ليكفلوا له التمدد والاتساع والمشروعية . ولا ريب أن هذه التسمية أكذوبة كبرى وأكذوبة مفضوحة في آن . فليس هناك إعلام هادف وإعلام غير هادف ( إذا ما أريد بالهادف معنى مرادفا للإيجابي ) . هناك إعلام حقيقي ، وهناك تفاهات تسمي نفسها ونسميها بجهلنا إعلاما . كل إعلام حقيقي هو هادف بالضرورة ، أي يؤدي دورا إيجابيا على نحو مباشر أو غير مباشر . وكل ما ليس بهادف ليس إعلاما . لكن ، قد يصح تسمية إعلام المتطرفين إعلاما هادفا ؛ من حيث كونه يسعى لهدف واضح لديه ، ولكنه غامض لدى جمهوره . والهدف هو : صناعة جيل جديد من المتطرفين . هذا الهدف الكارثي هو الذي نسعى لتفاديه ، وتفادي الكوارث الجانبية التي يتسبب بها ، من حيث نشره ثقافة التفاهة من جهة ، وتسببه في تشويه سمعة المسلمين من جهة أخرى . أخيرا ، لابد من التأكيد على أن ما جرى ويجري في إعلام المتطرفين هو عبارة عن سلسلة فضائح . وبدهيّ أن هذه الفضائح لم تكن لتظهر لو أن إخواننا المتطرفين لم يندفعوا إلى الإعلام المرئي بهوس مجنون ، فلو أنهم تقدموا بخطوات معقولة ، واستعانوا بمهارات مدربة ؛ لما أصبحوا أضحوكة للعالمين . أحيانا ، أتساءل وأنا أشاهدهم عن الصورة التي ستنطبع عنا في العالم . عندما يرى الياباني أو الصيني أو الأمريكي أو الهولندي ..إلخ هذه المشاهد ، خاصة عندما لا يفهم الكلام فيكون تركيزه على الصورة ، كيف سيرانا. جرّب كتم الصوت ، واستمتع بالمشاهد مجردة من أصواتها ، وتخيّل نفسك فرداً ما في أي مكان من هذا العالم . عندما أفعل ذلك أشعر بالخجل والإحباط ؛ لأن هؤلاء المتطرفين شركاؤنا رغما عنا في شكلية المظاهر ، أي في الهوية العامة المعلنة عن طريق الزي الموحد . أي أن العالم سيأخذ عنا صورة نمطية من خلال هؤلاء ، خاصة عندما تنتشر فضائياتهم بهذا المستوى الذي نراه الآن من الزخم والاتساع . إن كل هذا ليس إلا ضريبة الهوس المرضي بالشهرة من قبل إخواننا المتطرفين ، إنه الهوس الذي يدفع الجميع ثمنه : المتطرفون ومجتمعهم الرافض لهم . وكل ذلك بسبب التهالك على الشهرة والثراء ، ومحاولة الحصول عليهما ولو كان الثمن تفخيخ المجتمع بالتكفير في الداخل وفضحه بالصور الكوميدية الساخرة في الخارج . ومع هذا ، يصر المتطرفون على أنهم ليسوا عشاق ظهور ، وأن التيارات المضادة لهم هي الباحثة عن الظهور بهوس . ولا شك أنه ومن خلال إطلالة عابرة على هذا الإعلام المتطرف يتضح : من هو العاشق الحقيقي للشهرة ، هل هو المتطرف الذي يطل في الأسبوع الواحد أكثر من مرة (بعضهم تصل ساعات حضوره في مجمل القنوات لأكثر من عشر ساعات في الأسبوع الواحد) أم التنويري الذي لا يظهر إلا مرة في السنة؟ بل بعضهم لا يظهر إلا مرة واحدة كل ثلاث أو أربع سنوات ، بل إن بعض التقدميين يرون أن الإعلام الفضائي استهلاك لهم ، فلم نرهم قط في أي برنامج فضائي . هذا ليس ادعاء ، إذ يمكن لأي أحد التأكد من ذلك باستعراض الأسماء المعروفة في جدلية الفكر المحلي من خلال الصحف مثلا ، خذ من كل صحيفة محلية عشرين اسما ، اجمع مائة اسم من المحسوبين على خطاب التنوير ، ستجد أن أكثر من نصفهم لم يُشاهَد في أية وسيلة إعلامية مرئية ، وستجد النصف الآخر لا يظهرون إلا في القليل النادر ، والنادر جدا ، بل إن بعضهم يمتد وجوده في الساحة الفكرية لأكثر من ثلاثين عاما ، وله أكثر من عشرين كتابا ، وخلال كل هذه الفترة لم يظهر أكثر من عشر مرات ، أي بمعدل مرة واحدة كل ثلاث سنوات . إذن ، هل لا زلنا نتساءل : من هم عشاق الشهرة الذين يبيعون من أجلها الغالي والرخيص ؟