ومما لا شك فيه، والذي نلمسه واقعاً عملياً في بلادنا حكمة قياداتنا منذ الملك المؤسس وحتى اليوم، وسوف تستمر - بإذن الله - قيادة ناجحة، وإدارة لأمور البلاد سليمة. مَن هم أهلُ الرأي؟ من هم الذين تصلُح بهم الأمور؟ إنهم مَن أتاهمُ الله الحكمة وزودهم بها.. وهي أسمى درجات الروية والفكر. والحكيم هو من يجمع خلاصة التجارب وإدراك عواقب الأمور، ويعلمها الناس من حوله ليعملوا مثله بمقتضاها. لهذا فإن الحكمة هي أعظم ما يمنحه الله لخلقه. قال تعالى: (يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً). ** ** ** بالحكمة يسود الناس، وبالحكمة ينجح القائد في قيادته، ويتفوق العالم في نشر علمه - لهذا جاء قوله تعالى فيما أعطاه لأصفيائه، وهم مرسلون إلى البشرية ليعلّموا الناس الحق، ويصلحوا حال الدنيا كلها بالخير (فقد آتينا إبراهيم الكتاب والحكمة)، (وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة) ذلك لأن الحكمة هي معرفة الحق، وعمل الخير، وهي سلوك من الفطنة ينتهي إلى الرأي السّديد، والعمل القويم. ** ** ** ليست هناك قيادة، أو حكم، أو إدارة، أو عمل ناجح بدون الحكمة التي هي خلاصة التجارب والإمعان في نتائج الأمور. بالحكمة يتخلص القائد، والحاكم، والمدير من المباغتات الطارئة، والتدبير للمواقف الشديدة. إنها ليست الكلام النظري المنمق، ولا ابتغاء الحكمة أو البحث عنها عند أصحاب التأمل المجرد. من هنا تقوم المهارات اللازمة للقيادة الناجحة، للإدارة السليمة على شخصية حكيمة قادرة جاذبة، عالمة بالأمور المحيطة، مدركة للتجارب الواقعية مستفيدة منها. ** ** ** وهكذا جاءت موهبة الحكمة عاملاً أول في صفات القيادة الناجحة.. لأن فلسفة الحكمة وتميزها في قدرة أصحابها على معرفة الصواب فيما يقولون، أو يعملون. بهؤلاء الذين أوتوا عملَ وتفكير ومنهاج الحكمة يكون النجاح في الأمور، ويتحقق الخير والعدل في القيادة. ** ** ** ومما لا شك فيه، والذي نلمسه واقعاً عملياً في بلادنا حكمة قياداتنا منذ الملك المؤسس وحتى اليوم، وسوف تستمر - بإذن الله - قيادة ناجحة، وإدارة لأمور البلاد سليمة. لهذا فإن المسؤول عن الجماعة: الملك في مملكته، الرئيس في بلده، القائد في قواته، الوزير في وزارته، المدير في إدارته، رب الأسرة في بيته إن لم يعطه الله الحكمة التي هي نوره الذي يرسم خطاه، والقانون الذي يصوب رؤاه، سوف تسير الأمور به وعنده على غير ما يرام من الخير، والصحة، والعدل، والنماء. ذلك لأنه لو تولى زمام الأمر من لم يهبه الله الحكمة بمفهومها الحقيقي فسوف تؤول هذه الإدارة إلى الإخفاق - ولن يكون لها الطيبُ المرجو من الثمر. ** ** ** إن الجهالة والرعونة هما آفة الحياة، ومهلك الشعوب، أما الحكمة والروية وحسن التدبر والتدبير بالمفهوم الحقيقي فهي كلها سلاح من يتولون زمام الأمور بطريقة تُجنب الزلل ووخامة النهاية - وهي جميعها دعائم البقاء، وأسس الثبات. ** ** ** وفي هذا المجال، وبجانب ما هو كثير من آيات القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة، وما جاء من أقوال الخلفاء، والعلماء، والأئمة الصالحين فيما هو خاص بضرورة أن يتولى القيادة حكماؤها - لأنهم القادرون على حسن سير الحياة فيها بجانب كل هذا - وفي هذا المجال - أعجبتني قصيدة للشاعر الجاهلي الأفوه الأودي كان الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود - رحمه الله - شديد الإعجاب بها - دائم الترديد والاستشهاد في مواقفه ببعض أبياتها.. جاء في هذه القصيدة أنه: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جُهَّالهم سادوا تهدى الأمور بأهل الرأي ما صلحتْ فإن تولت فبالأشرار تنقادُ إذا تولى سراةُ القوم أمرهمُ نما على ذاك أمرُ القوم فازدادوا والبيت لا يبتنى إلا له عمدٌ ولا عماد إذا لم ترس أوتادُ فإن تجمع أوتادُ وأعمدةُ وساكن بلغوا الأمر الذي كادوا ** ** ** السراة هم الشرفاء الحكماء؛ لهذا فالعرب يقرنون الشرف بتوفر الحكمة عند صاحبه، إذ إن تملك الحكمة هو أهم متطلبات النجاح. لذا فإنه إذا ساد الرعناء غير أصحاب الحكمة مكاناً، أو تملكوا أمراً فإن ذلك يعني إخفاق هؤلاء القوم في تحقيق أمورهم. السراة هم الأوتاد التي ترفع عليها المباني، وترتقي الحياة، وبقدر قوة الأوتاد وعمقها تعلو الأعمدة، ويرتفع البنيان؛ فإن السراة منهم الأعمدة، ومنهم الأوتاد. ** ** ** وفيما حولنا اليوم نجد بعض الدول مزدهرة، راقية، آمنة، مطمئنة سالمة متطورة.. لها مكانها في الحياة.. ومكانتها بين الأمم - وما ذلك إلا بفضل سراتها.. الذين هم حكماؤها وحصنها الحصين، وقبطان سفينتها الحذر الواعي، الخبير بمسالك البحار، وتقلبات الأمواج، فهي سالمة رغم هيجان الحياة، آمنة وسط العواصف التي تقصف غيرها من البلاد، ونحمد الله - صادقين شاكرين - أننا في سفينة لها قيادة ثابتة حكيمة من سراة القوم وشرفائه وحكمائه. ندعو لها بدوام السلامة. ** ** ** وهناك دول أخرى.. لا أمان لحياة أهلها.. ولا استقرار لظروف الناس فيها.. مزلزلة القيادة، مزعزعة الإدارة، كل يوم في أزمة، كل حين في محنة.. بل في معركة. هناك دول متهالكة جائعة، لا نماء ولا رخاء.. أهلها متخلفون، ومن فيها متعبون ساخطون.. ذلك كله لأن من تولوا الأمر فيها ليسوا من سراة الناس.. ليسوا ممن تشرفوا بالحكمة، وطيب المعدن، وقد يصل الأمر إلى أن همجية تفكير القائد وفردية نظرته، وذاتية حكمه توقع بلاده في حروب طاحنة، تدمر اقتصادها بعد ازدهار، وتوقف عجلة الحياة فيها بعد أن كانت تسير بسرعة واقتدار. ** ** ** من أجل ذلك قضى الله تعالى أن تكون القيادة بالمشورة، ليجتمع في القرار من هم أهل حكمة - سراة القوم من هم أهل المعرفة والخبرة. ولا أدل على أهمية ذلك في نجاح القيادة، وأمن الحياة، وسلامة الأمور.. وخير القرار.. أن الله تعالىأمر رسوله الحبيب وهو الذي لا ينطق عن الهوى (إن هو إلا وحي يوحى).. أمره بالمشورة مع أصحابه ومن معه (وشاورهم في الأمر) وكم من مواقف حاسمة كانت مشورة الصحابة لرسول الله فيها متحققة.. فما أحرى بنا اليوم أن نستمر على المزيد من المشورة. ** ** ** وحين نضرب المثل في حكمة القيادة نجد الملك المؤسس - رحمه الله - مثلاً حقيقياً عملياً لهذا الأمر، ولست الآن بصدد ذكر مواهبه التي حباها الله له نتيجة عمق حكمته - فهي كثيرة - شهد له بها حتى خصومه - ولقد سمعت من بعض من نعموا بصحبته، والعمل مباشرة تحت قيادته قصصاً كثيرة مبهرة، وكيف كان يصغي لمستشاريه الذين اصطفاهم من مختلف البلدان، كنت أتمنى ذكر هذا الذي سمعته وقرأته عنه - رحمه الله - لكن مقالاً كهذا لن يفي حتى بجزء من حقه، ولعل المهتمين بهذا يرجعون إلى تلك الكتب المتعددة التي سجلت مواقف كثيرة تنم عن حكمة بالغة من ذلك القائد المظفر. ** ** ** على أن من الذين سجلوا صدق المواقف، وآثار حكمة هذا المؤسس الحكيم الباني الملك عبدالعزيز.. شيخنا المرحوم عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري في كتابه - بل في موسوعته عن الملك المؤسس (لسراة الليل هتف الصباح) قدم له الأستاذ محمد حسنين هيكل مقدمة منصفة مشيدة بحكمة الملك المؤسس. ويقع الكتاب في ثمانمئة وأربع وثمانين صفحة كلها كلمات صادقة، وصور شاهدة تتحدث عن جلي حكمة الملك المؤسس وعبقرية قيادته.. كثيرون أخذوا ما سجله هذا المؤلف المشاهد للأمور في حينها وصاغوا منه كتباً لها شهرتها، ومن آخرها صدوراً كتاب بعنوان: (للقائد التاريخي قلم ينصفه) للأستاذ فؤاد مطر عام 1427ه - 2006م، يقول فيه: «جاء في سجل شيخنا التويجري ما هو شاهد صادق على تميزه كملك حكيم، ومؤسس دقيق، ووالد جامع لأولاده، وبانٍ لوطن ينعم اليوم في ثمار تأسيسه وخير حكمته، وصواب فكره». ** ** ** رحم الله الملك الحكيم المؤسس الباني، الذي تحققت فيه أصول الحكمة، وثبتت به قواعد البناء، وصارت حقيقة ماثلة في بلادنا أنه: إذا تولى سراة القوم أمرهم نما على ذاك أمر القوم فازدادوا ** ** ** أعود وأوجز أن الحكمة حين تتوفر سماتها في شخص ما فإن في ذلك ضماناً لسلامة المسيرة على مستوى البلاد والمؤسسات والأفراد. فكل النكبات التي تمر بها بعض البلدان أو المؤسسات، والدوائر، والمصالح الحكومية، والخاصة.. إنما هي نتيجة أن السراة ليسوا هم القادة، وكل الأعمال التي يقوم بها المفسدون من الجماعات الإرهابية جاءت نتيجة سموم موجهي هذه الفئات - إذ هم رعناء حتماً لا يعرفون العواقب الوخيمة لأفعالهم الشائنة. فلنبحث عن المؤهلين بالحكمة للقيادة في صغير الأمور وكبيرها؛ حتى نتجنب الإخفاق، ونصل إلى الصواب المراد، وعسى ألا ننساق للعواطف في اختيار من يتولى شأناً من شؤون الحياة. ** ** ** وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها، اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمدنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد.