ثم إنه تمر بنا أحياناً أحداث وفواجع تحتاج من المجتمع بكل فئاته إلى التآزر والتعاون فيما بين أفراده امتثالاً لأوامر رسولنا العظيم الذي شبه المسلمين بأنهم كالجسد الواحد. تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنتَ سائله من القيم العربية المشهودة، ومن السمات الإنسانية العريقة.. الكرم.. وقد سبق أن تعرضتُ لهذه القيمة العظيمة في ثنايا بعض من مقالاتي.. لأنه خصلة من أطيب الخصال، وأنه يميز العرب عمن سواهم منذ أن عرفهم التاريخ في الجزيرة العربية. وتحدثتُ في مقال سابق عن الإخلاص.. وأثق أن الكرم ليس ثمرة، بل هو توأم الإخلاص.. فالكريم حقاً هو الذي يعطي ما يعطي مخلصاً طائعاً لربه، أما الذي يُعطي رياء أو تباهياً ما حُق له أن يسمى كريماً؛ لأنه قصد إلى شيء نفسي وراء هذا الذي يظنه كرماً - إنما هو دعاية شخصية له. * * * وفي القرآن الكريم والسنة النبوية الكثير من الحث على التحلي بهذه السمة العظيمة، وكلنا يحفظ قوله تعالى: (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى). وقال تعالى: (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه، وهو خير الرازقين). ويكفي الكرم نبلاً أنه من أسماء الله تعالى: (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم)، وقوله تعالى: (ومن كفر فإن ربي غني كريم). ووصف به رسوله الكريم (إنه لقول رسول كريم). ووصف الله سبحانه وتعالى بالكرم ملائكته قال: (كراماً كاتبين، يفعلون ما يؤمرون)، (كرام بررة). ومثل ذلك كثير فيما ورد في السنة المطهرة. * * * إن الكرم يؤدي إلى انتشار الحب والوئام في المجتمع، وبه يتلاشى الحقد والحسد من القلوب، فيسود التعاون، والحب، والتسامح، بين أبناء المجتمع من الأغنياء والفقراء، وتقوى الصلة والمودة بينهم، ويصبحون جميعاً كالجسد الواحد، أو البنيان القوي المتين. * * * وفي حياة العرب يأخذ الكرم نصف الحياة.. وتأخذ الشجاعة نصفها الآخر، بل إني لأقول: إن الشجاعة هي وليدة الكرم.. فالشجاع كريم بنفسه، ولن تجد بخيلاً شجاعاً.. لأنه بخيل بالمال وغيره.. فهو أشد بخلاً بنفسه. قال الشاعر العربي: نجود بالنفس إن ضن البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود وقال آخر: فأوقدت ناري كي ليبصر ضوؤها وأدخلت كلبي وهو في البيت داخله ومعروف ما دار حول النابغة الذبياني وحسان بن ثابت، حين قال حسان: لنا الجفنات الغر يبرقن في الضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دماً فلم يوافق النابعة قول حسان (الجفنات) لأنها جمع قلة، والأفضل (الجفان) جمع كثرة؛ لتدل على كثرة الكرم. وأيضاً لم يوافقه على (يبرقن في الضحى) لأن كل وعاء يبرق في الضحى والأفضل (لو قال يلمعن في الدجى) ليراها السائر في الليل تلمع فيأتي لأهلها الكرام. وها هو الكرم يبدو في أبهى صوره: متى تأته تعشو إلى ضوء ناره تجد خير نار عندها خير موقد ولشدة حب الكرم كان الوليد بن المغيرة يرفض أن توقد نار مع ناره، وكان يتكفل بالسقاية أيام الحج في الجاهلية. لقد فتن العرب بالكرم.. واتخذوا له رموزاً وإشارات، فكانت تسمي (الكلب) داعي الضمير، ومتمم النعم، ومشيد الذكر لما يجلب من الضيوف بنباحه. وكانوا إذا اشتد البرد، وهبت الرياح ولم تشب النيران، فرقوا الكلاب حول الحي، وربطوها إلى العتمة؛ لتستوحش فتنبح فتهدي الضال.. وتأتي الأضياف على نباحها. * * * وما حاتم الطائي إلا أنموذج سوف يبقى عبر التاريخ للكرم الحقيقي والعطاء المخلص. ولقد ورث حاتم هذا الكرم عن أمه (عتبة بنت عقبة) التي كانت من أسخى الناس وأقراهم للضيف.. وكانت لا تبقي شيئاً تملكه.. فلما رأى إخوتها إتلافها حجروا عليها، ومنعوها مالها، فمكثت دهراً لا يدفع إليها شيء منه، حتى إذا ظن إخوتها أنها قد وجدت ألم ذلك أعطوها صرمة من إبلها، فجاءتها امرأة من مازن كانت تأتيها في كل سنة تسألها، قالت لها أم حاتم: دونك هذه الصرمة فخذيها، فوالله لقد عضني من الجوع ما لا أقدر أن أمنع منه سائلاً أبداً.. ثم أنشأت تقول: لعمري لقد عضني الجوع عضة فآليت آلاّ أمنع الدهر جائعا فقولا لهذا اللائم اليوم أعفني فإن أنت لم تفعل فعض الأصابعا فماذا عليكم أن تقولا لأختكم سوى عذلكم أو عذل من كان مانعا وهل ينظرون اليوم إلا طبائعا فكيف بتركي ياابن أم طبائعا وقد جاء الإسلام متمماً لمكارم الأخلاق الكريمة التي كان عليها العرب في الجاهلية، وثبتها، وأثنى على أصحابها ومنها الكرم. * * * تلك واحدة من قيمنا العظيمة، وهكذا كان التعبير عنها في ذلك الزمان، حيث شظف العيش وقلة الطعام. واليوم يا تُرى كيف يكون الكرم، وكيف يكون التعبير عنه؟ إني لأشعر بالاستنكار لهذا الذي نراه من مظاهر في مجتمعنا المتمثل في البذخ وإهدار الأموال في الموائد.. فالكرم سمة عظيمة.. وخصلة نبيلة لكنه لا يعني الإسراف والتبذير غير المعقول.. إن الكرم المحبوب المطلوب هو وسط بين التقتير، والتبذير، وتختلف مظاهره حسب الأزمنة والحاجة، وأضرب لذلك مثلاً بمظاهره، فقد كانت مظاهره قديماً تتمثل في الموائد الحافلة بالكثير من ألوان الأطعمة المتنوعة.. ذلك أن الحاجة للطعام في ذلك الوقت هي مظهر الكرم.. للضيوف.. وللأهل والجيران بعدهم والناس في أمس الحاجة إليه، وأتذكر في صِباي كيف أن الناس يفرحون بالمناسبات ولا يبقون على شيء مما تمتلئ به الموائد من طعام.. أما الآن فالكرم قد صار صورة مغايرة لذلك؛ تتمثل في مد يد العون للمحتاجين، وعون المعسرين بالمال والجاه.. كل حسب طاقته، دون إسراف مخل، قال تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد مذموماً مخذولاً). وهناك صور للكرم تغيب أهميتها عن بعض الناس وهي كرم المشاعر، والتعبير عنها.. كم هو جميل أن يفتح الإنسان قلبه ووجهه للناس من أن يفتح متجهماً باب منزله أو مكتبه. أبِنْ للآخرين طيبَ مشاعرك نحوهم ولطفَ تعاملك وحوارك معهم، وثناءك على ما تراه حسناً من أعمالهم، وصادقاً مفيداً من أقوالهم، ومصيباً نافعاً من مواقفهم. لمَ لا نعطي الناس حقهم من الشكر والعرفان إذا هم أحسنوا - كما نعطي العاملين أجرهم إذا عملوا؟ * * * ثم إنه تمر بنا أحياناً أحداث وفواجع تحتاج من المجتمع بكل فئاته إلى التآزر والتعاون فيما بين أفراده امتثالاً لأوامر رسولنا العظيم الذي شبه المسلمين بأنهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. فأين التآزر في مثل هذه النوازل؟ إن الكريم لا ينتظر من يطرق بابه ليُقدم له الضيافة، أو يوفي له بحاجته، بل هو الذي يبحث عمن يساندهم، ويقضي حاجتهم. ونحن في زمن اتسعت الشقة فيه بين أفراد المجتمع الواحد؛ فالقلة تملك من المال قناطير مقنطرة، والكثرة في عوز وضيق، وتمر بهم الجوائح مثل ما حصل لبعض أحياء جدة فأين هم الموسرون؟ وماذا قدموا؟ وبماذا أسعفوا الآخرين؟ ألم يعلموا أن ذلك واجب ديني، ومسؤولية أخلاقية، وأن مظاهر الكرم الحقيقي تبرز في مثل هذه المواقف؟ ولا أنسى في طفولتي ومجتمعنا المحلي الذي لم يكن أحد فيه قد بلغ من الثراء شيئاً يُذكر، وليست هناك هوة اقتصادية كبيرة بين أفراده كما هي الآن، ومع ذلك فقد كان كل فرد يُعطي كل ما يستطيعه حين تحل ببعض الأسر جائحة من الجوائح، حتى إن بعضهم يتبرع بجهده وطاقته الجسمية، والآخر بحماره لينقل المؤونة عليه للأسر المتضررة. أين أثرياؤنا اليوم من فاجعة جدة؟ هل قدموا الواجب، أو قريباً منه؟!! الكرم هنا يتجلى بأسمى معانيه، وأسمى معانيه حين يجود القادر على المحتاج دون طلب أو استجداء. إن إسهام القادر إما بماله، أو بجهده في تخفيف الآلام الناتجة عن الأحداث لا يلغيه قيام الدولة بكل الإمكانات، وكل الغوث اللازم.. بل إن المروءة الحقيقية تكون بمساندة الدولة وإضافة جهود الأفراد إلى جهود الحكومة؛ فيكون الفرد المشارك بذلك حقاً كريماً ذا مروءة ونجدة مسانداً دون منّ أو رجاء شكر من أحد. * * * بهذه المقالة تكتمل سبع عشرة حلقة من (حتى لا تذبل قيمنا)، قصدت أن أقدمها لقرائي في شهر رمضان وما تلاه من الأشهر الحرم المباركة، وأقرر أن هناك قيماً كثيرة عظيمة.. نحن في أشد الحاجة إلى التذكير بها - وقد تسنح لي الفرصة أن أعود إليها، وأستأنف الحديث عما لم ينشر منها. وكم كنت أرجو أن تكون هذه القيم هي محور أحاديث الوعاظ وخطباء المساجد وأن تكون هي لب المناهج التعليمية - خاصة في مواد التربية الإسلامية. وليتهم أطاعوني حينما ناديت بذلك لكنهم اعترضوا جاهلين - وليت البرامج الإذاعية المسموعة والمرئية تُعطي هذه القيم ما تستحقه من العناية والوقت بدلاً من التركيز على أمور فقهية ثانوية معروفة. وفي متابعتي لهذه البرامج في رمضان المبارك وجدت أهل الافتاء، والوعاظ يطيلون أحاديثهم في أمور معروفة مكررة للجميع. من ذا الذي لا يعرف مبطلات الصيام، وفوائد التبكير بالإفطار، والتأخير في السحور، وفضل صلاة الجماعة والتراويح، وحكم زكاة الفطر، وما إليه من أمور دينية واضحة؟ وفي موسم الحج وعيد الأضحى.. ما أكثر الحديث المكرر والمعروف عن مناسك الحج وسنن الإحرام ومبطلاته.. وفضل صيام يوم عرفة لمن ليس حاجاً.. ووصف الأضاحي.. وغير ذلك من كثير الأحاديث في هذا الشأن. لا اعتراض لي على ذلك فهو إعادة تذكير لمن يكون قد نسي شيئاً.. أو تعريف لمن لا يعرف - لكن في هذه المواقف الكريمة التي يصغي الناس فيها إلى النصائح والتوجيهات الدينية الكريمة أكثر أقول: فلنعط قيمنا العظمى التي تميزنا عن غيرنا حقها من الحديث والدعوة إلى التمسك بها، والتحلي بآدابها في هذه المواقف والمناسبات الكريمة فهي أجدر بذلك. * * * نعم نريد أن نقدم قضايا ديننا الكبرى التي تشغل العالم اليوم ليعرف كل أهل الأرض ما في ديننا من أمور عظيمة تصلح لإصلاح الكون كله، ويجدوا رداً على كل ما ينتابهم من مزاعم يلفقها أعداء الإسلام وتشويه لقيمه الإنسانية العالية.. تلك القيم التي دخل الناس بموجبها وإعجاباً بها.. دخلوا في دين الله أفواجاً. ديننا هو السلام.. بكل معايير السلام - حتى إنه سمُي دين الإسلام وهو دين الأمن والأمان - فسمي لذلك بالإيمان واليقين في كل جوانب الدين إن السلام والأمان هما قضية العالم اليوم - وليت العالم يعود في ذلك إلى الإسلام ففيه يتحقق الأمان. * * * لقد أشرتُ هنا وفيما سبق أن كتبتُ عنه من قيم عظيمة هي من مقومات عقيدتنا لشعوري بأنها يغشاها الغبش الآن عند بعض الناس، فلا يعون حقيقتها.. ولا يشعرون بقيمتها - بل هم يجهلون كيف التحلي بهذه القيم وسبل أدائها. * * * وأقرر أني فيما كتبته لا أعمم القول - أو الوصف بغير هذه القيم للناس جميعاً - لكنه توجه مني أريد به أن يتحلى كل الناس بهذه القيم على حقيقتها، وأن يولوها عنايتهم عملاً، وشرحاً، ونشراً في المجتمع، في كل الوسائل المتاحة.. ويكونوا هم قدوة لغيرهم. * * * وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب، والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها، اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمِدنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد.