يحمل ابو الطيب المتنبي، ذو النزعة العروبية الواضحة كل الوضوح في شعره، عدة "جنسيات" عربية: اولها الجنسية العراقية بحكم المولد والتربية والنشأة. ثانيها الجنسية السورية بحكم إقامته سنوات طويلة في "دولة" حلب في كنف حاكمها سيف الدولة الحمداني. اما ثالث هذه الجنسيات فهي الجنسية المصرية بحكم إقامته ست سنوات (في ربع او ثلث عمره الشعري) في الفسطاط عاصمة الدولة الاخشيدية حيث مدح خلالها كافور وهجاه وكتب ايضاً بعضاً من عيون شعره. على ان هناك جنسية رابعة للمتنبي قلما التفت اليها دارسوه هي الجنسية اللبنانية التي استحصل عليها باكراً عندما كان في الرابعة والعشرين من عمره، وعندما أقام في لبنان فترة في كنف كاتب معروف كانت له منازع صوفية، وعلى يديه، لا على ايدي سواه، تلقى ابو الطيب دروساً في علم الأذواق والأحوال والمقامات والمجاهدات. اسم هذا الكاتب المتصوف الذي يشير المستشرق الفرنسي لوي ماسينيون الى دور له في سيرة الحلاج، هو ابو علي هارون بن عبدالعزيز الأوراجي، المقيم في ناحية من نواحي لبنان، قد تكون في بلعبك وقد تكون في الساحل. اما لماذا عدم تحديد مكان اقامة الأوراجي، فلأن كتب التراث لا تذكر هذا المكان بالضبط. وكذلك لا يحدده ديوان المتنبي. ولكن الأكيد أن المتنبي لقي أبا علي هارون بن عبدالعزيز في لبنان، وأقام في كنفه، ولزمه مدة من الزمن قبل ان يعود الى مهنته الأساسية وهي السفر من مكان إلى آخر. مما يؤكد "لبنانية" المتنبي وكونه عرج إليه مراراً، وأقام فيه، وعرف مواصفاته الطبيعية، ابيات له من قصيدته اليتيمة التي مدح بها الأوراجي وهي التالية: بيني وبين ابي علي مثله شم الجبال ومثلهن رجاء وعقاب لبنان وكيف بقطعها وهو الشتاء وصيفهن شتاء لبس الثلوج بها علي مسالكي فكأنها ببياضها سوداء وكذا الكريم اذا أقام ببلدة سال النضار بها وقام الماء يقول المتنبي ان الجبال العالية الشماء تفصل بينه وبين ابي علي. هذه الجبال مكسوة على الدوام بالثلوج سواء في الصيف أو في الشتاء ولهذا يتعذر على المسافر أو على الزائر قطعها. لقد لبس الأمر على المتنبي، اي اشتبه واختلط. ضل في تلك الجبال، جبال لبنان، بسبب الثلوج تماماً كما يضل السالك في سواد الليل. ويبدو أن الأمر هو على هذه الصورة اذا اقام الكريم ببلدة: سال النضار بها وقام الماء! تمتاز قصيدة المتنبي هذه - وهي تقريباً من شعر الصبا - بمثابة السبك وجمال المبنى والمعنى، ولكنها من زاوية ثانية تشكل "وثيقة" تاريخية تتصل باستخدام اسم "لبنان" في تلك المرحلة من التاريخ المعروف ان هناك سجالاً دائماً حول "تاريخية" اسم لبنان لا من الناحية السياسية وحسب، بل من نواحٍ اخرى كثيرة. فهل كان الاسم متداولاً في المرحلة الأموية والمرحلة العباسية على سبيل المثال؟ ابيات المتنبي هذه تجزم بذلك. يرد فيها لبنان كمكان، او كاسم لجبل او لجبال. ولا يمكن نسبة هذا المكان، او هذا الاسم، لأي مكان آخر بدليل ان المتنبي يتحدث عن جبال شماء يتعذر قطعها على مدار السنة في الشتاء كما في الصيف (وصيفهن شتاء).. انه لبنان الذي نعرفه اليوم، تماماً كما عرفه المتنبي، والذي كثيراً ما شكلت ثلوجه عبر التاريخ حائلاً بينه وبين زوار كثيرين رغبوا بزيارته. ويبدو ان إقامة المتنبي في ربوع لبنان لم تكن إقامة عابرة. صحيح ان مدحه لأبي علي هارون بن عبدالعزيز الأوراجي اقتصر على قصيدة واحدة، الا أن بقاءه في لبنان فترة من الزمن يمكن استنتاجها من قصيدة ثانية في ديوانه ارتجلها ارتجالاً هذه المرة في مجلس الأورادي موضوعها وصف ظبي ورد في حديث للأورادي عندما كان يخبر المتنبي عن رحلة صيد قام بها وتمنى لو كان المتنبي معه ليصف ما شاهد وهذا هو الخبر كما يرد في ديوان المتنبي وفي مقدمة قصيدة من قصائده: "دخل عليه يوماً فقال له: وددنا يا ابا الطيب لو كنت اليوم معنا. فقد ركبنا ومعنا كلب لابن ملك فطردنا به ظبياً ولم يكن لنا صقر فاستحسنت صيده. فقال: انا قليل الرغبة في مثل هذا. فقال ابو علي: انما اشتهيت ان تراه فتستحسنه فتقول فيه شيئاً من الشعر. قال: أنا أفعل، أفتحب ان يكون الآن؟ قال: أيمكن مثل هذا؟ قال: نعم، وقد حكمتك في الوزن والقافية.. قال: لا بل الأمر فيهما إليك. فأخذ ابو الطيب درجاً واخذ ابو علي درجاً آخر يكتب فيه كتاباً، فقطع عليه ابو الطيب الكتاب وأنشده.. مطلع القصيدة التي ارتجلها المتنبي في وصف ما كان مما أخبره به الاوراجي هو التالي: ومنزل ليس لنا بمنزل ولا لغير العاديات الهطل وهي قصيدة لا نظير لها في دقة الوصف لما اخبره به ابو علي حتى كأنه شهد الحادثة بنفسه. كل هذا كان ارتجالاً، وابو علي يكتب ما يمليه عليه ابو الطيب، او ما تفيض به قريحته. فاذا لجأنا الى تحليل هذه الواقعة، قلنا إن المتنبي ابن الرابعة والعشرين من عمره كان شاعراً ناضجاً له كل ملامح العبقرية الشعرية منذ حداثته بالعمر وبالشعر. ولنتأمل هذا التبجيل الذي يفيض به حديث الاورادي معه، والمعاملة الكريمة التي يمنحها له، ينظر اليه الاورادي، وله ما له من المنزلة في الادب والتصوف وفي المجتمع ايضاً - بحب ليقول له: "انما اشتهيت ان تراه فتستحسنه فتقول فيه شيئاً من الشعر".. انه قول يقطر لطفاً وتحبباً واحتراماً.. هذا والمتنبي في غضاضة الصبا. وعندما يبادر المتنبي إلى قوله: انا أفعل، أفتحب ان يكون الآن؟ يجيبه الاورادي بنفس اللطف والتحبب: "ايمكن مثل هذا"؟ ثمة رقي في مثل هذا التخاطب بين "الشيخ" و"مريده" ابي الطيب الذي تقول الدراسات الحديثة انه لزمه وأخذ عنه، وان تأثيره في المتنبي كان قوياً. ومن هذا التأثير شيوع عبارات التصوف ومناخاته وصوره في شعر المتنبي. ولا ننسى ايضاً "الإغراب" و"الشطح" في ابيات كثيرة له منها هذا البيت "الغرائبي" الذي يختم به المتنبي قصيدته "اللبنانية" الأولى في مدح ابي علي: لو لم تكن من ذا الورى اللّذْ منك هوْ عقمتْ بمولد نسلها حواءُ صحيح ان "اللّذ" هو لغة في "الذي" ولكنها تبدو مستغربة أو غريبة.. وكذلك الأمر في تسكين "هو" في آخر الشطر.. "اللذ منك هو"، عبارات لا يمكن ان يقدم على استعمالها شاعر آخر غير ابي الطيب المتنبي.. عندما قدم المتنبي لبنان كان قد اقام فترة طويلة في مضارب بعض القبائل العربية في البادية. ولكنه، بمجيئه الى لبنان، اضاف الى البادية الجبل والثلج، واجاد فيها جميعاً. انه شاعر القمم وشاعر كل العصور والفصول. واللبنانيون يتشرفون بلا شك بأنه اقام بين ظهرانيهم، ومر بأرضهم، فمسها السحر والخلود.