أما اليوم.. فقد تغيرت هذه المظاهر النبيلة كثيراً عند بعض من الناس ففي زحام الحياة، وتسلط المصالح الخاصة وانشغال الناس بمطالبهم الذاتية وبعد المسافات بينهم تغاضى البعض عن هذه الصلة العظيمة ما أعظم الإنسان حين يعلو على كل النقائص والهفوات ويتجاوز عن الأخطاء والزلات هذا مع الناس جميعاً، وهي أكثر استحقاقاً مع الأقارب والأرحام، والأرحام أولى بالرحمة، وأولى بالمحبة. (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله). صلة الأرحام صلة مباشرة قوية بالله تعالى، من وصلها وصله، ومن قطعها قطعه. والرحم بين الناس هو الخيط الذي يجمع الحبات المتفرقة، فيتكون منها عقد واحد له اسم واحد، ووجود واحد، وقوة واحدة، وذلك العقد القوي المتين هو الأسرة. ومن الأسرة يتكون المجتمع، وكلما كانت الأسرة متماسكة بأفرادها كان المجتمع كذلك مترابطاً متضامناً، مصلحة الفرد فيه جزء من مصلحة الجماعة التي لا تعرف الانحلال، ولا التخاذل، ولا التواكل، وبذلك يحيا المجتمع حياة قوية مستمدة من نفسه وشعوره، وحسب المجتمع ذلك عزة وسعادة. وإذا كانت الرحمة مطلوبة بالناس الآخرين فإن الرحم من الرحمة والرحمة أحق بالأرحام. وإذا كان الإحسان مطلوباً بين الناس عامة أداء لحق الإنسانية المشترك، ومطلوباً بين المؤمنين على وجه خاص قياماً بحق الأخوة الدينية فإنه بين الأقارب مطلوب على وجه أخص، وعلى نحو ألزم قياماً بحق الرحم الذي هو محل عناية عظيمة في الوصايا الإلهية وفي الهدي النبوي.. وأنا من المعجبين بمقولة تنسب لشيخ الإسلام ابن تيمية، قال رحمه الله (إن الإسلام يدور كله حول أمرين: الإخلاق للحق، ورحمة الخلق) فإذا كانت رحمة الخلق عامة هي أحد الأمرين الذي يدور حولهما الإسلام فإنها للقريب أكثر استحقاقاً. *** لقد كانت صلة الإرحام بمستوياتها شغل جميع الرسل والأنبياء جميعاً، وجميعهم أداها حين لزومها فها هو نوح - عليه السلام - يطلب النجاة لابنه من الغرق (يا بني أركب معنا ولا تكن مع الكافرين) وها هو أبو الأنبياء إبراهيم يدعو أباه وأهله للتوحيد وترك الأصنام (إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً) وقال له: (يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصياً). وغير ذلك في حق صلة الأرحام في سير الرسل والأنبياء كثير، ومنها (وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله.. إن الشرك لظلم عظيم). وها هو السيد المسيح يقول( وبراً بوالدتي). وتجئ دعوة الحبيب المصطفى لقومه خاصة والناس في كل الدنيا عامة دعوة نموذجية في البر بالأرحام على كل المستويات. إذ أمرنا الله تعالى أن نحمي الأهل كما نحمي أنفسنا (قوا أنفسكم وأهليكم ناراً). *** صلة الأرحام فرض عين على كل إنسان - يقول النبي - صلى الله عليه وسلم: (والذي بعثني بالحق لا يقبل الله صدقة من رجل وعنده قرابة محتاجون لصدقته ويصرفها إلى غيرهم، والذي نفسي بيده لا ينظر الله إليه يوم القيامة). ومما يؤكد أهمية صلة الأرحام وحتمية أدائها تجاه الأرحام قوله - صلى الله عليه وسلم - (إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم، فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى.. قال: فذلك لك). ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: (أقرأوا إن شئتم.. فهل عسيتم إن شئتم.. فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم.. أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم). *** صلة الأرحام سمة النبلاء، الكرام.. ذوي الأصل الطيب والعرق الكريم، وقد كنا في الماضي وحتى عهد قريب نرى صوراً متنوعة طيبة لصلة الأرحام بين أفراد الأسرة، وبين مجموع الأهل والأرحام خاصة في المناسبات الدينية كشهر رمضان، والأعياد، وفي الأفراح، والأتراح، وغير ذلك كنا نشعر ونلمس ونرى قوة الترابط بين الأسرة الصغيرة، وحتى مع من يرتبطون بها من الأعمام، والأخوال، والأجداد، وكم كانت الاجتماعات الأسرية بمختلف مستويات القربى مظهراً كريماً للبر بالأهل وصلة الأرحام. أما اليوم.. فقد تغيرت هذه المظاهر النبيلة كثيراً عند بعض من الناس ففي زحام الحياة، وتسلط المصالح الخاصة وانشغال الناس بمطالبهم الذاتية وبعد المسافات بينهم تغاضى البعض عن هذه الصلة العظيمة، ولم يعد الواحد منهم يصل أهله وأقرباءه إلاّ عند الضرورات. وقد يكون أحدهم غنياً وفي أرحامه فقراء.، وقد يكون قادراً ميسوراً الحال وفي أقاربه أشقياء ضعفاء محتاجون، لكنه لا يعلم حالهم، ولا يشعر يوماً بحاجتهم لأنه لا صلة له بهم، وقد ينفق الكثير على من حوله هنا وهناك - تباهياً وفخاراً، وكأنه لم يسمع الحديث النبوي الذي سبق ذكره. *** صلة الأرحام أولى بها من هم أشد قرباً لنا ومن بعدهم درجة؛ فبعد الوالدين يأتي الإخوان والأخوات قبل الأعمام، والازواج قبل سائر الأقرباء ، وهكذا أبناؤنا، وكل من بيننا وبينه قرابة أو نسب، والأشد قرباً هو الأولى صلة.. دون قطيعة للآخرين. وقصة زينب الثقفية امرأة عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه وعنها - تؤكد ذلك: إذ حثها الرسول - صلى الله عليه وسلم - حينما سألته عمن أحق بفائض مالها فأرشدها - عليه السلام - إلى أن تكون للأقربين وأولهم أبناؤه وزوجها، وعنها قال الرسول حينما نفذت توجيهه الكريم (إن لها أجرين: أجر القرابة، وأجر الصدقة). *** من هنا أردد قول الله تعالى على نفسي وعلى الجميع (واتقوا الله الذي تساءلون به والإرحام إن الله كان عليكم رقيباً). فصلة الرحم لا تنقص من المال شيئاً، ولا تكلف صاحبها ضراً؛ بل تزيده كما جاء في قوله - صلى الله عليه وسلم - (من أحب أن يُبسط له في رزقه وينسأ له في أثرهِ، فليصل رحمه). *** ولكن هناك جانباً آخر لا بد أن نشير إليه وهو أن الإنسان قد يكون باراً بأهله، واصلاً لرحمه لكنهم قد يسيئون إليه، وقد يفعلون معه ما يدفعه - لو ترك نفسه ترد بالمثل - لقطع صلته بهؤلاء الأرحام، ولاستمرت العداوة قائمة بين الطرفين. من ذلك: ما ورد في الأثر أن رجلاً قال: «يا رسول الله: إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليها ويسيئون إليّ - وأحلم عنهم ويجهلون عليَّ، فقال: لئن كنت كما قلت فكأنما (تسفهم الملَّ)، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك»، ومعروف أن المعنى لتسفهم الملَّ أي تنثر عليهم الرماد الحار. *** يذكِّرني هذا الموقف الذي لا يخلو الحياة من تكراره بما كان من أمر الشاعر الأموي الكبير الملقب بالمقنع الكندي، والذي سجله في قصيدته الغراء (يعاتبني في الدَّين قومي).. وكأنهم تخلوا عنه لتغير حاله وضيق ذات يده يوماً.. أو ثقل الديون على كاهله مرة.. لكنه بقي على حبه لهم، وصلته بهم.. لم يقاطعهم وقد قاطعوه.. لم يتركهم وقد تركوه.. ظل على حب الخير لهم مع أنهم ظلموه.. يعلن أنه سيسرع رغم كل ذلك إلى نصرهم لو دعوه، وأنهم سيجدون منه المحافظ على صلة أرحامه مهما خذلوه. هل لنا نحن اليوم أن نسير سيرة المقنع الكندي وتنهج منهجه القويم، ونحافظ على مبدئه الكريم، ولا نقطع صلة أرحامنا إن هم أساءوا إلينا يوماً. *** هل لنا أن نكون أكرم فعالاً مع إخواننا وأقاربنا إن هم خذلونا، يقول المقنع في ذلك: وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلف جدا أراهم إلى نصري بطاء، وإن هم دعوني إلى نصر آتيهم شداً فإن يأكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن يهدموا مجدي بنيت لهم مجدا وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم وإن هم هووا غيي حفظت لهم رشدَّا وإن قطعوا مني الأواصر ضلةَ وصلت لهم مني المحبة والودا ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس كريم القوم من يحمل الحقدا فذلك دأبي في الحياة ودأبهم سجين الليالي أو يزورنني لحدا لهم جل مالي إن تتابع لي غنى وإن قل مالي لم أكلفهم رفدا هذه سمات نبيلة، لا تتأثر بالقطيعة.. إنها أخلاق سامية لا تتدنَّى ببعض المواقف الظالمة. لأنه من هذه الأرحام الأصيلة، وإن لقي منهم ظلماً وغبناً فقد جاء هو كريماً أصيلاً نبيلاً؛ لم يرد العيب بعيب، ولم يقابل القطيعة بقطيعة لأنهم منهم، وهم أرحامه، وجبت عليه صلتهم مهما أساءوا. *** والناس بمثل هذا الصفح والتجاوز سيتراجعون آسفين نادمين على ما قطعوا من أرحامهم، وآذوا أقرباءهم.. قناعة منهم بأن صلة الأرحام هي العلاقة التي يجب ألاَّ نقطعها إيماناً بالله.. وتنفيذاً لأمره بها مهما بدت من طرف هفوة تجاه الآخر. ما أكرمك خلقاً أيها المقنع.. ما أنبلك شعوراً أيها الواصل رحمك، ما أعظمك مبدأ وأنت مع كل ما لقيته من قومك تعلن أنهم هم أعظم من ترى.. وأكرم من تعرف من الناس، وأنهم - رغم ما فعلوا - أهل فضل، وأصحاب أحلام، وقوم مجد وتاريخ مشرف: على أن قومي ما ترى عين ناظر كشيبهم شيباً، ولا مُردهم مردا بفضلُ، وأحلام، وجود، وسؤدد وقومي ربيع في الزمان إذا شدا فهيا بنا إخواني القراء نطيع الله فيما أمرنا - أولاً - ثم نقتفي أثر هذا المقنع، ونصل ما قد نكون قد قطعناه من أرحامنا.. هيا نتصل بهم بكل وسائل الاتصال وبكل سبل تحقق لنا صلة الأرحام والبر بهم والعناية بكل شؤونهم ، وليس كريم القوم من يحمل الضغينة!. *** وإني لأخص بحديثي هذا من هم متنازعون من الإخوة - متخاصمون من الأقارب - لسبب مادي زائل، أو خلاف أسري عارض، أو عدم قبول رأي.. أو سوء فهم لقول.. وأمثلة ذلك كثيرة بين من نعرفهم - في هذا العصر.. لهم جميعاً.. أقول: عودوا واصلين من قطعتم من أهلكم، وأقاربكم، وأرحامكم.. فالدنيا زائلة وليس فيها من الأسباب التي دفعتكم للقطيعة ما يستحق غضب الله عليكم إن تماديتم في قطيعة ما وصلها الله، وفي تسامحكم ورضاكم عن بعضكم رضا الله عنكم. فيا أخي: إن كنت على شيء من ذلك الخلاف أو تلك الخصومة مع أحد من أقاربك أو أرحامك فإني استحلفك بالله أن تراجع نفسك الآن.. وتعود إلى رشدك وتقلع عما هو بينك وبين أحد من أقاربك من خصام إن كان هناك خصام. *** وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها، اللهم أجعل صدرونا سليمة معافاة، وأمِدنَا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد.