الإنسان أصل التنمية وهو المستهدف بكل المشاريع التي تقوم بها الدول ، رغبة في إعلاء شأن الوطن الذي لا يعلو إلا بسواعد أبنائه ، إن ترقية مفهوم الإنسان بصفته هذه غائبة كثيرا عن وعينا وعن مناهجنا وعن وسائل إعلامنا ناهيكم عن الخطاب الديني ! فالملاحظ أنه مع كثرة الإنجاب الذي يتغذى على الزواج المبكر من كلا الجنسين وتعدد الزوجات ، واستمرار بعض الرجال في الزواج والإنجاب لما بعد السبعين من أعمارهم وربما إلى ما بعد الثمانين ، كل هذا ساهم في كثرة النسل دون أن يرافقه وعي في قيمة الإنسان نفسه الذي يتكاثر على هذا النحو المخيف ، ولعل من أبسط الأمثلة على ذلك هو كثرة الإنجاب في المستويات الفقيرة والمعدمة ، ولعلنا نلحظ ذلك في الحالات التي توردها الصحف عن الفقراء والمرضى والمعسرين والمساجين الذين يتحدثون عن معاناتهم مع جيش من الأطفال قد يربو على العشرين ، فإنجاب الأطفال لا يتطلب ثمنا ، وربما كانت كثرة النسل لدى أولئك المعدمين تأتي من باب التعويض فهو الشيء الوحيد الذي يمكنهم الحصول عليه دون عناء يتساوون في هذا مع الأغنياء وربما تفوقوا عليهم! ومن أمثلة عدم الاهتمام بقيمة الإنسان ما نراه في حوادث السيارات إذ يحشر رب العائلة في سيارة أضعاف سعتها الفعلية ، فيحشر أطفاله وأمهم أو أمهاتهم في سيارة واحدة ، وعندما يتعرضون لحادث تذهب الأسرة بأكملها ، ناهيكم عن حوادث الحرائق والغرق في المياه الراكدة وغيرها التي يذهب ضحيتها أعداد كبيرة من البشر ، بسبب عدم الوعي بقيمة الإنسان وعدم فعل الأسباب التي تحميه من الأخطار ، هذه الثقافة بعيدة عن وعي الكثيرين ! وربما كانت كثرة الأبناء من أسباب عدم الحرص على سلامتهم فالذي أتى بهم سيأتي بغيرهم ، وما جاء بسهولة يمكن تعويضه بالسهولة نفسها ، وكيف لنا أن تصور قدرة من لديه جيش من الأبناء قد يفوقون العشرين على حمايتهم ورعايتهم ! وإذا تجاوزنا هذا الأمر الذي يتمثل في وعي ربّ الأسرة نفسه ومسؤوليته في الحفاظ على أبنائه بشيء من الحرص والاهتمام ، وجدنا كثرة النسل - كقنبلة موقوتة – تشكل خطرا على الوطن وتهدد خطط التنمية ، وتجعله يغرق في إشكالات عديدة لن يستطيع التغلب عليها بأي حال ، ولنا عبرة في الدول المحيطة بنا التي فشلت كل مشاريعها التنموية بسبب الكثافة السكانية ، وقد جاء في إحدى الإحصائيات أن نسبة المواليد في بلادنا تزيد على النصف مليون طفل سنويا ، بما يعادل مولود في كل دقيقة ، وهذه زيادة خطيرة ولها كثير من الآثار السلبية على الاقتصاد وأمن الوطن واستقراره ، فالدول التي بلغت الزيادة السكانية لديها معدلات مرتفعة تعاني على المستوى المادي من غياب التنمية الاقتصادية الذي نتج عنه عدم المساواة بين الأفراد في التعليم والوظائف والدخل ، فزادت معدلات الفقر والنزاعات ، مما أدى إلى عدم الاستقرار وعدم الشعور بالأمان وتعثر المشاريع الوطنية ، وبالتالي الهجرة إلى الدول المجاورة طلبا للرزق ! وأما على الصعيد الاجتماعي فقد أدت الزيادة السكانية وسوء توزيعها والحركة العشوائية وغير النظامية للأفراد في هذه الدول ، إلى أوضاع معقدة منها نقص فرص التعليم وتردي الخدمات الطبية وقلة المساكن والغذاء الصحي وشح المياه الصالحة للشرب ، مما ساهم في زيادة الأمراض والأوبئة ونشوء الصراعات الداخلية والجرائم . هناك من يفرق بين تحديد النسل الذي يتمثل في عدد معين من الأطفال ، وتنظيم النسل الذي يترك فترة زمنية قد تصل إلى ثلاث سنوات بين طفل وآخر ، هذا في حال كانت الزوجة واحدة ، أما إن كان للرجل أكثر من زوجة ، فهذا الأمر يستعصي على كل مفاهيم التحديد والتنظيم ، بل إن المعدد لا يعترف أصلا بذلك ، وهو لم يعدد لينظم النسل بل ليكاثره ! وهناك من يتعاملون مع هذا الأمر بذهنية عاطفية لا تفكر في المستقبل ولا فيما يترتب على كثرة السكان من إشكالات ، ويرفضون تحديد أو تنظيم النسل بمبررات دينية ، ويسوقون من الأدلة التي ينزعونها من سياقها ليؤكدوا عدم جواز التنظيم أو التحديد ، وقد سئل أحدهم عن الحكم في الرأي الذي يقول : إن فقر المسلمين وضعفهم وتخلفهم في هذا العصر نتيجة للانفجار السكاني وكثرة النسل بنسب تفوق خطط التنظيم الاقتصادي ؟ فأجاب بقوله : إن هذا خطأ ، وذلك لأن الله تعالى هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ، وليست العلة في كثرة السكان ، وقد ضمن الله الرزق تعالى لجميع المخلوقات ( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ) وهذا أمر مؤكد فلا خلاف في أن الله هو الرازق ، ولكنه هو الذي قال ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) وليس هناك من تهلكة أكثر من أن ينجب الفقير دون حساب ثم يأخذ في التسول هو وأبناؤه بما لا يليق بكرامة الإنسان ، فكيف لرجل فقير وعاطل وربما كان كبيرا في السن أن ينفق على جيشه هذا ، أولم تورد وسائل الإعلام أخبارا عن حالات انتحار قام بها آباء وأمهات لعجزهم عن الصرف على أبنائهم بل تعدى ذلك إلى انتحارهم ونحر أبنائهم معهم لمّا ضاقت بهم السبل ؟ أولم يقدم الله المال على البنين في أكثر من آية ( المال والبنون زينة الحياة الدنيا ) و ( ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين ) ، وهذا دليل على أن كثرة الإنجاب مع الفقر نوع من الانتحار البطيء ، كما يستشهد الممانعون بقوله تعالى : ( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ) وقوله: ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئاً كبيرا ). وكلنا يعلم أن الآية جاءت للتحذير من الإقدام على قتل الأبناء خشية الفقر كما كان يفعل أهل الجاهلية ، ولا شك أن القتل شيء و تنظيم النسل بما يتوافق مع مصلحة الإنسان أولا والأوطان ثانيا شيء آخر ، ونحن عندما ندعو إلى تحديد النسل أو تنظيمه ، يقينا أننا لا ندعو إلى الاكتفاء بطفل أو طفلين ، بل خير الأمور الوسط ، فالإنجاب إلى ستة أو حتى سبعة لا ضير فيه إلى حد ما لمن يحبون كثرة النسل ، أما أن يصبح الإنجاب مراثونا تتسابق فيه الضرائر وينافس فيه الرجال بعضهم بعضا فهو قمة الاستهتار بالوطن وبمقدراته . وهؤلاء يغفلون مفهوم الآية التي تجعل الأموال والأولاد فتنة ، إذ يكاثرون الأولاد بحجة القدرة على الإنفاق عليهم ، فيحصرون القدرة في الإنفاق ، في حين أن الأمر يتجاوز ذلك إلى التربية والرعاية والعدل ، وكلنا يعلم أن بعض أبناء المعددين المقتدرين يشكون من عدم العدل بل من جهل أبائهم بأسمائهم نظرا لكثرتهم ! كذلك يستشهد الممانعون بحديث ( تزوجوا الودود الولود , فإني مكاثر بكم الأمم ) ، وهذا الحديث يفصلونه عن سياقه الذي جاء في موضع كره النبي أن يتزوج الرجل امرأة لا تنجب ، حيث يُروى أن رجلا ( جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال وإنها لا تلد أفأتزوجها ؟ قال لا ، ثم أتاه الثانية فنهاه ، ثم أتاه الثالثة فقال تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم ) . إضافة إلى أن الرسول قال هذا الحديث عندما كان المسلمون قلة. ومن المغالطات التي تساق في هذا الموضوع قول أحدهم في دراسة مستقبلية عن مصر " إن الزيادة السكانية لم تكن أبداً عبئاً ، ولا يصح أن تعتبر كذلك في القرن القادم ؛ فهي التي مكنت مصر من التقدم في كل العصور" ، ولا أظن أني بحاجة إلى إثبات خطأ ما يزعم فالوضع في مصر بسبب الانفجار السكاني لا يخفى على عاقل ، وفي دراسة أخرى : يشير الدكتور مصطفى الفقي إلى أن من أهم العوامل المؤثرة في دور مصر عربيا : " اعتبار مصر مستودع الثروة البشرية " وهذا صحيح بدليل تفرق المصريين وهجرتهم وانتشارهم في أصقاع الأرض بحثا عن سبل العيش الكريم ، ولو لم يهاجر أولئك فإن الأوضاع في مصر كانت ستكون أسوأ مما هي عليه الآن من انتشار الفقر وعجز خطط التنمية عن معالجته . ويقول آخر : " القوة الغالبة لا تكون في المستقبل إلا للبلاد التي تتمتع بزيادة السكان " ولهذا نقول إن الزيادة السكانية في قارة أفريقيا على سبيل المثال كانت وبالا عليها وعلى الدول القريبة منها وتمثل أكبر خطر للدول الغنية وخاصة السعودية ودول الخليج العربي ، إذ تزايدت الهجرة غير الشرعية لهذه الدول من القارة الأفريقية بحثا عن حياة أفضل ، ووصلت في السنوات الأخيرة إلى معدلات مقلقة بسبب الانفجار السكاني في تلك القارة ، وقد قدر تقرير للأمم المتحدة صدرعام 2007م بأن الزيادة ستتضاعف بحلول عام 2050 م من 945.3 مليون نسمة حاليا إلى 1.937.00 بليون نسمة . يقينا إن زيادة النسل ليست هي الكفيلة بتقدم الأوطان ورقيها كما يزعم بعضهم ، بل بترشيد النسل ، ووضع خطط التنمية الجيدة التي تستشرف المستقبل وتعد له العدة ، إضافة إلى نشر قيم العدل والمساواة والأمان في المجتمع ، ومحاربة الفساد والمفسدين ولصوص المال العام ! والتوعية المجتمعية بخطر كثرة النسل عليهم وعلى مستقبل أبنائهم ! إنه لو كانت العبرة بالكثرة لكانت بعض دول أوروبا كالسويد والنرويج وغيرها من أكثر الدول تخلفا ، إن الذين يشجعون على كثرة النسل دون قيد أو شرط جاهلون ومتآمرون على أمن الوطن ومستقبله .