في خطوة ذات مغزى، استقبل معالي الرئيس العام لهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الشيخ عبدالعزيز الحمين، المواطن أحمد القحطاني، الذي «اتهم بعض رجال الهيئة بالاعتداء عليه بالضرب و تقطيع ملابسه فور إنزاله زوجتَه من السيارة أمام أحد المجمعات التجارية بمدينة الرياض، في شهر مارس الماضي»، واعتذر له عما بدر من رجال الهيئة تجاهه، خاصة ما حصل له من»تشهير» من قبل مدير العلاقات العامة بالهيئة في تعقيبه الذي أرسله لجريدة «الرياض» ونشرته في عددها رقم (14895)، وأوضح فيه «أسباب» القبض على المذكور. ووفقاً لما جاءت به الأنباء، فقد أكد الشيخ الحمين للمواطن المذكور أن «رد مدير العلاقات العامة لا يمثل وجهة نظر الهيئة، وأنه ليس من طبيعة عملها التشهير بأحد». كما أكد له أيضاً أن مدير العلاقات العامة سيُصدِر اعتذاراً عن خطابه المنشور، واعداً إياه بإنصافه، وهو ما دفع المواطن المذكور إلى التراجع عن نيته مقاضاة مدير علاقات الهيئة، أو أعضائها حتى تنتهي القضية. وبالفعل، عدل مدير العلاقات العامة والإعلام في الهيئة عن تعقيبه السابق حول القضية، وأرسل خطابا ثانياً اعتبر فيه أن الإيضاحات التي وردت في بيانه الأول، «كانت اجتهاداً ولا تعكس رأي الرئاسة النهائي». وجاء في نص الاعتذار الرسمي، الذي أرسله مدير العلاقات العامة لجريدة «الرياض»، التي نشرت الخطاب الأول،: «نشير إلى تعقيبنا المنشور يوم أمس بعدد صحيفتكم رقم 14895 تحت عنوان: (في رد تلقته «الرياض» من الهيئة توضح تفاصيل قضية مجمع غرب الرياض) وما ذكر فيه من إيضاحات حول قضية المواطن القحطاني. نفيدكم أن تلك الإيضاحات كانت باجتهاد ولا تعكس رأي الرئاسة النهائي، حيث تبين لنا أن الأعضاء الذين شاركوا بالقضية قد أوقفوا عن العمل من تاريخ القضية وأحيلوا للتحقيق، وألغيت الدورة التي كانت مخصصة لأحدهم كإجراء مبدئي، ولم يكتمل التحقيق حتى تاريخه. وإذ نوضح لكم ذلك، نعتذر للمواطن القحطاني عن نشر تعقيبنا قبل اكتمال التحقيق». ويمكن القول بأن هذا الإجراء الحازم الذي اتخذه الشيخ الحمين تجاه ما حصل للمواطن المذكور، بالإضافة إلى أنه يعكس - على ما يبدو - اتجاهاً جديداً نحو تطوير آليات تعامل الهيئة مع أفراد المجتمع، فإنه يتوافق أيضاً مع ما قرره الشرع المطهر من تحريم «التشهير» بالناس، والذي يمكن إدراك مظانه أي التحريم من وجهين هما: أولاً: تحريم «التشهير» بالناس وتتبع عوراتهم عموما. وفي هذا المجال، نجد أن الأدلة،سواءً من القرآن أومن السنة، قد تضافرت على تحريم التشهير بالآخرين، ومتوعدة عليه بأقصى العقوبات. فقد قال تعالى بحق الذين تكلموا في عرض أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فيما يعرف بقصة الإفك،:«إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون». هكذا اعتبر الله تعالى التشهير بالناس ولوْك أعراضهم بمثابة إشاعة للفاحشة في المجتمع. ولذا، فقد علق أبو الفداء الحافظ ابن كثير، في تفسيره، على هذه الآية بقوله:«هذا تأديب من الله تعالى لمن سمع شيئاً من الكلام السيء فقام بذهنه منه شيء. فيجب أن لا يذيعه ولا يكثر منه ولا يشيعه». ثم ساق حديث ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لا تؤذوا عباد الله ولا تعيروهم ولا تطلبوا عوراتهم، فإن من طلب عورة أخيه المسلم طلب الله عورته حتى يفضحه في بيته».كما قال تعالى أيضاً:«لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم». وليس أعظم جهراً بالسوء من تتبع عورات الآخرين، وعلى رأسها الحديث عن «تُهَم» من يقبض عليهم ولمَّا يزالوا رهن التحقيق فيما نُسب إليهم. أما من السنة فمنها حديث ثوبان الذي مر بنا آنفا. ومنها كذلك حديث عائشة رضي الله عنها الذي قالت فيه:» كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن الرجل الشيء، لم يقل ما بال (فلان) يقول كذا. ولكن يقول: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا». بل إنه صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على صون كرامة الجاني وشعوره من أن يمس بسوء حتى أثناء تنفيذ العقوبة بحقه. فقد روى البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بِرجُل قد شرب، قال: اضربوه. قال أبو هريرة: فمنا الضاربُ بيده، والضاربُ بنعله، والضارب بثوبه. فلما انصرف، قال بعض القوم: أخزاك الله، قال صلى الله عليه وسلم:» لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان». وفي لفظ آخر من حديث أبي هريرة: قال رجل: ما له أخزاه الله؟. فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم». ثانياً: لما كان التشهير عقوبة، أو هو جزء مكمل للعقوبة، فقد أخضعه الشرع الإسلامي لضوابط معينة تحدد وقته، ومَنْ المنوط به صلاحية إيقاع «عقوبة» التشهير بحق المذنب. كما تحدد الجرائم التي يمكن أن «يُشهَّر» بمرتكبيها. فمن ناحية، طالما أن «التشهير»، كما قلنا آنفا،عقوبة، أو جزءٌ من عقوبة، فلا يجوز، بالتالي، إشهاره بحق المتهم إلا بعد (ثبوت) التهمة عليه وتقرير عقوبة ما بحقه. وهذا الاستنتاج ينقلنا مباشرة إلى الحديث عن الجهة التي أناط بها الشرع صلاحية التشهير بالمذنب، والذي يؤكد أن القضاء وحده هو المنوط به تلك الصلاحية. وذلك يعني أن لا جهة أخرى غير القضاء، سواءً أكانت جهات قبض أو جهات تحقيق، يحق لها الحديث عن التهم المقبوض، بموجبها، على المتهمين، لأنها لا تزال تهماً لم تثبت بحقهم بعدُ، والمتهم يظل بريئاً حتى تثبت إدانته بالتهمة. وعندما «يُشَّهر» به، بذكر»التهم» التي قُبض عليه بسببها، خاصة تلك التهم التي تتعلق بعرضه أو بما يمس سمعته الشخصية أوسمعة عائلته بسوء، قبل ثبوت التهمة عليه، فذلك يعني إيقاع عقوبة (ما) بحقه قبل ثبوت ما نسب إليه. ولذا نجد أن الجرائم التي أمر الله تعالى بإشهار عقوبات مرتكبيها، درءاً لاستشرائها أي تلك الجرائم في المجتمع، لا تكون إلا بعد ثبوت التهمة وإيقاع العقوبة على مرتكبيها، كحد الزنا الذي قال الله تعالى فيه:«وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين». ويبدو، والله أعلم، أن الجرائم التي نحت الشريعة نحو التشهير بمرتكبيها، هي تلك الجرائم التي يتعدى ضررها إلى المجتمع الكبير، كجريمة الزنا والسرقة والحرابة وما شابهها من جرائم أخرى، سواء تلك المحددة عقوباتها، أم تلك التي تدخل تحت طائلة العقوبات التعزيرية. والعقوبات عموماً، بما فيها عقوبة التشهير، ليست مقصودة لذاتها، بل لما يترتب عليها من قصد إصلاح المجرم ودرء شروره عن المجتمع. وبالتالي فمن نافلة القول إن أي تشهير بالمتهمين الذين لم يدانوا ولم تصدر بحقهم عقوبات بعدُ، لن يأتي إلا بنتائج عكسية، سواءٌ على المتهم نفسه، أم على المجتمع الحاضن له. والهيئة، بصفتها جهاز ضبط ينتهي دورها بمجرد تسليم المقبوض عليهم إلى دوائر الشرطة، لا يجوز لها الإفصاح عن «تهم» من تقبض عليهم ابتداء. وهذا ما أدركه الشيخ الحمين حين قال:«إنه ليس من طبيعة عمل الهيئة التشهير بأحد».