من قال لا أدري فقد أفتى، فما ضرني إن كنت " لا أدري "، وأضيف ميزة أخرى أنني أجاهر بحقيقة أنني لا أدرى دون تردد أو إحجام، ولست أتمثل في هذا الموقف – لا سمح الله – موقف أبي الفلاسفة جميعا ، سقراط، الذي كان دائما ما يقول حين يثنون على معارفه: أنا لا أعرف إلا أمرا واحدا ولا شيء غيره، هو أنني لا أعرف شيئا.. بل الأحرى أنني أعمل بنصيحته الشهيرة التي ما تزال محفوظة في نقشها على واجهة البارثنون : " اعرف نفسك" .. لا أريد أن ابتعد عن الموضوع، ويلزمنا أن نقطع على أنفسنا وعدا مشتركا، أنا أعد بأن أكون صادقا وصريحا، وقارئي العزيز يعد بالصبر ومواصلة القراءة الى أن ينتهي الكلام، فقد تبرز لنا من ثناياه مفاجأة ترضينا وتعوض صبر الصابرين، وحرصي على هذا الوعد من القارئ مرده حرص على ألا ينقطع بيننا خيط من الود تعبنا حتى مددناه.. أبدأ بنفسي وبوعدي فاعترف بصدق أن ليس لدي موضوع لهذا المقال..! تذكر وعدك بالمواصلة وبالصبر.. هناك حكمة تقول اذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب، ربما استلهاما لهذه الحكمة أصمت الآن، تاركا فضة الكلام أو صفيحه وساعيا إلى ذهب الكف عن الكلام، وإذن فماذا يكون هذا الذي نفعله اللحظة ؟ في رأسي الآن جملة خطيرة تغالبني لتثبت وجودها فكرة مزلزلة، لكنني أغالبها كي أبر بوعدي، وإمعانا في طردها ألوذ بحكاية تروى في مصر عن قروي يزور المدينة مع ابنه الصغير وزوجته، كلما رأى شيئا سأل الطفل أباه: أبي ما هذا ؟ وأجاب الأب : " لا أدري "..، لم يتغير السؤال ولم يتغير الجواب عشرين مرة حتى ضجرت الأم، فنهرت ابنها: " كفاية أبوك طفش " ، فرد الأب الذي لم يجب سؤالا واحدا : " أتركيه كي يتعلم " ..! أهذه هي ثقافة النفي؟ كاتب كبير، أديب وناقد وفيلسوف، سألوه عن تعريفه " للفن " فقال : ابدأ باستبعاد كل ما ليس بفن، وما يتبقى بعد ذلك يكون هو الفن.. على هذا القياس أريد أن نصل معا إلى قضية هامة تطرحها الكتابة عموما، وعلينا أن نبدأ باستبعاد ما تلوكه الأقلام حتى أصبح مستهلكا.. لا بأس، نستبعد ألف مقال كتب عن المرأة حتى ضجرت المرأة نفسها من الزج بها في موضوع لا يتصل بها، وشاهدي على هذا الضجر إحدى القارئات " د. هناي " وأن نستبعد الكتابات عن التعليم وإصلاحه، فمنذ أن وعيت وأنا أتابع وحتى اللحظة كتابات لا تبشر بانتهاء عن التعليم، وأن نستبعد " هيئة الأمر بالمعروف " فكفاها ما كتب عنها سلبا بغير حق أو إيجابا بغير صراحة، وأن نستبعد استثمار الحوادث الفردية وافتعال سياق لقضية عامة تكون الحادثة نواتها، وأن نستبعد الكتابة بغير هدف أو موضوع كهذه الكتابة التي أمارسها الآن سواء جاهر بذلك الكاتب أو أخفى الحقيقة خلف أي ادعاء، وأن نستبعد... ونستبعد ...، فماذا يتبقى أمامنا لنكتب فيه أو عنه ؟ الذين استبعدوا كل ما ليس بفن ليروا ما يتبقى فيكون هو الفن لم يتبق لديهم بعد الاستبعاد شئ، وربما كانت هذه هي نية الأديب الفيلسوف صاحب فكرة الاستبعاد، أن يثبت الناس لأنفسهم أن هذا الذي نمارسه تحت زعم الفن ليس بفن، وعلى هذا القياس أيضا أترك سانحة للجملة الحبيسة في رأسي، فقط لأنها تتماشى مع قياس الفيلسوف : لدينا في لغتنا العربية "كتّاب " أجلاء ، ولكن ليس لدينا " كتابة " . تلك الجملة التي ظللت أغالبها لأنها تجير لنفسها كل هذه الكتابة كموضوع أطرحه، وما كنت أحب أن أنكث بالوعد .