كلامه فرح به خصوم الإسلام وأعداؤه من اليهود والنصارى والملاحدة والرافضة)، (ماهر في التمويه ومخادعة القارئ في نفث فكره العفن)، (يرى نقص القرآن لكنه لا يستطيع التصريح فيموّه على القارئ)، (يتهيب بالتصريح بفكرته المتزندقة فيتظاهر باحتمال نفيها ليتمكن من تسريبها للقارئ الغافل)، (لا يستطيع نقد الإسلام وأسسه فيقوم بالتكتيك المرحلي بنقل انتقادات وحوارات الفرق القديمة لبعضها لزعزعة قناعات القارئ). هذه العبارات وردت في السؤال المطروح على الشيخ البراك، وفي جواب البراك في فتواه عن الجابري وفي مقالة الأستاذ الفاضل بندر الشويقي بعد تلخيصها في مقالته التي رد بها على تعليقي على فتوى البراك في موقع "العربية"، ولاشك أن القارئ لهذه الأوصاف سيستنتج أن المتحدث عنه زنديق أوقف حياته لمحاربة الإسلام والطعن فيه، فمن هو هذا المتحدث عنه؟ المتحدث عنه بهذه الأوصاف هو الدكتور محمد عابد الجابري، حسنا دعونا الآن ننقل بعض أفكاره وأطروحاته لنرى هل تصدق عليه تلك الأوصاف المخيفة البشعة التي ذكرها أولئك الأخوة المتحمسون؟ يقول الجابري "أنا أرى أن الإسلام دنيا ودين، وأنه أقام دولة منذ زمن الرسول عليه الصلاة والسلام، وأن هذه الدولة توطدت أركانها زمن أبي بكر وعمر، وإذن فالقول إن الإسلام دين لا دولة هو في نظري قول يتجاهل التاريخ" (حوار المشرق والمغرب/ص 101)، ويقول "العلمانية بمعنى فصل الدين عن الدولة غير ذات موضوع في الإسلام لأنه ليس فيه كنيسة حتى تفصل عن الدولة" (حوار المشرق والمغرب/ص 10)، ويقول: (وهكذا نرى أن تطبيق الشريعة قد دار مع المصلحة, وهذا لا يعني أن الشريعة يجب أن تتغير بتغير المصالح, كلا. الشريعة ثابتة ومطلقة لأنها إلهية" (الدين والدولة وتطبيق الشريعة/ص 45). ويكاد يكون الجابري المفكر العربي الوحيد الذي وافقت أطروحاته الآراء السلفية في كثير من القضايا المشكلة في التراث، ومن ذلك أنه يرى أن الشيعة والجهمية والصوفية فرق استمدت فكرها من التراث الغنوصي الهرمسي الموروث من فلسفات سابقة على الإسلام (تكوين العقل العربي/192 – 219)، ويرى أن آراء الأشاعرة تخالف طريقة السلف في صدر الإسلام والقرن الأول (تكوين العقل/298)، ويرى أن آراء الأشاعرة المتأخرين بداية من تنظيرات الرازي تبنت فلسفة ابن سينا (مناهج الأدلة/31) ويرى أن بداية النهضة العربية الحديثة هي دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وليس الحملة الفرنسية (حوار المشرق والمغرب/221). وهل معنى هذا أن الجابري مفكر إسلامي؟ وأنني أتفق معه في كل أطروحاته؟ إطلاقا الجابري ليس مفكرا إسلاميا وهو نفسه يرفض تصنيفه بذلك، ولست أتفق معه في كل أطروحاته بل لدي من الانتقادات ما لو كتبتها لجاءت في مجلد كبير، وقد سبق أن كتبت نقدا لبعضها في مقال نشر لي في مجلة "المجلة" بعنوان (حقوق الله أم حقوق الإنسان)، ونقدي للجابري يأخذ مسارين: المسار الأول نقد منهجي إذ إن منهج الجابري في كتابته عن التراث يقوم على الانتقاء فهو ينتقي من التراث ما يوافق الأفكار التي يتبناها وليس أدل على ذلك من أمرين: الأمر الأول تضخيمه للدافع السياسي في تفسير كثبر من التوجهات الفكرية في التراث إلى درجة التمحل أحيانا وفي سبيل إثبات ذلك ينتقي من الحوادث التاريخية ما يؤيد تلك الرؤية ويهمل ما عداها. والأمر الثاني أنه في حديثه عن نظم المعرفة في الثقافة العربية (البيان، والبرهان، والعرفان) وقد ألف في دراستها كتابا ضخما وهو كتابه (بنية العقل الغربي) في 600 صفحة، أهمل الكلام فيه عن ابن تيمية تماما سوى إشارة عابرة له، مع تعرضه لمؤلفين أقل شأنا من ابن تيمية بكثير؛ وذلك لأن الجابري انتصر لنظام البرهان الذي يعبر عنه الفلاسفة وخاصة ابن رشد، وابن تيمية انتصر لنظام البيان، وله مؤلفات ضخمة في نقد نظام البرهان فقد انتقد الفلاسفة بطريقة منهجية عميقة كما في (درء التعارض) ونقض منطق أرسطو، وكل دراسة للفلسفة ونظم المعرفة في التراث العربي لا تتطرق لنقد ابن تيمية فهي ناقصة. والمسار الثاني نقد علمي إذ إن الجابري كثيرا ما يقع في أخطاء علمية فادحة ويبني عليها نتائج كبيرة فأحيانا يبنى فكرته كلها على حديث ضعيف أو حكاية ساقطة، أو استقراء ناقص، أو خطأ في فهم ما قيل ومن ذلك رأيه في كيفية تطبيق الشريعة وذلك بدعوته إلى تبني تقديم المصلحة على النص إذا تعارضت المصلحة مع النص مستدلا على ذلك بإجماع الفقهاء على ذلك، والحق أن القول بذلك انفرد به الفقيه الحنبلي الطوفي وعُد رأي شاذ. ومع ما لدى الجابري من أخطاء في المنهج والأفكار والمعلومات وغيرها شأنه شأن كل عالم ومفكر وكاتب، إلا أني أعتقد جازما أنه خدم الإسلام بإنتاجه وكتبه أكثر مما خدمه الشيخ الجليل البراك ؛ إذ إن الشيخ البراك لا تتعدى فائدة طرحه عددا محدودا من المتدينين ممن يتلقون عنه العلم، وهم في جملتهم من طلبة العلم أصلا الذين جاؤوا للاستزادة من العلم ليس غير. أما الجابري فإن قراءه والمتأثرين بأطروحاته ومؤلفاته أعداد لا تحصى من العلمانيين في جميع أقطار العالم العربي، وقد أثر كثيرا في نظرتهم للدين والتراث؛ فإذا كان أدونيس في أطروحاته الفكرية ساهم في إبعاد كثير من المثقفين عن الإسلام فإن الجابري أرجعهم إلى الإسلام؛ ولهذا قامت موجة عاتية من النقد وجهها له غلاة العلمانية لأنهم يرونه يدعو إلى الأصولية ويجامل في طرحه الإسلاميين، كما أحدث طرحه ظاهرة الكتابة في التراث لدى عدد كبير من المفكرين والمثقفين وهي ظاهرة لفتت نظر جورج طرابيشي فوصفها بالعصاب الجماعي، ولاقت دعوته في أنه لا نهضة للعرب إلا من خلال التراث صدى واسعا أحدثت تصالحا لكثير من العلمانيين مع الإسلام، وأيضا حرضت كتاباته بعض المفكرين الإسلاميين للكتابة في التراث كطه عبدالرحمن، وأبي يعرب المرزوقي. يبقى الحديث عن قضية السجال الدائر هذه الأيام بيني وبين أولئك الأخوة الفضلاء وهو عن تهمة القول بنقص القرآن؛ فهل قال الجابري بذلك كما اتهمه الأخوة المتحمسون؟ لقد قرأت كتابه (مدخل إلى القرآن الكريم) وجلست معه جلسة خاصة قبل المحاضرة فاتضح لي أن رأيه في هذه القضية يتلخص بما يلي: حديث الجابري عن النقص في القرآن يدور حول سورتين فقط من سور القرآن وهما سورتا (الأحزاب) و(براءة) (مدخل إلى القرآن الحكيم/229–2230) فهل تبنى القول بنقصهما؟ لأنقل لكم أولا ما قاله الأستاذ الفاضل الشويقي ثم أعلق عليه؛ قال الأستاذ الشويقي: "فسياق كلامه (يقصد الجابري) كله صريحٌ وواضحٌ في تجويزِ أن يكون هناك نصوصٌ قرآنية سقطت من الصحابةِ حين تصدوا لجمع القرآن الكريم؛ ففي (ص231) قال الجابري وهو يتحدث عن احتمال وقوع النقص في سورتي (براءة) و(الأحزاب): "لقد اشتملت السورتان على نقدٍ داخليّ ومراجعة وحساب وكشف عورات، خاصة سورة براءة، لم يرد مثله في أية سورة أخرى. ولا نعتقد أن ما سقط منهما من الآيات –إذا كان هناك سقوط بالفعل- يتعلق بهذا الموضوع، لأن ما احتفظت به السورتان كان عنيفاً وقاسياً إلى درجة يصعب معها –بالنظر إلى أسلوب القرآن في العتاب- تصور ما هو أبعد من ذلك". ثم قال بعد ذلك: "وكل ما يمكن قوله –على سبيل التخمين لا غير- هو أن يكون الجزء الساقط من سورة براءة هو القسم الأول منها، وربما كان يتعلق بذكر المعاهدات التي كانت قد أبرمت مع المشركين. ذلك أن سور القرآن، بخاصة الطوال منها، تحتوي عادة على مقدمات تختلف طولاً وقصراً، مع استطرادات، قبل الانتقال إلى الموضوع أو الموضوعات التي تشكل قوام السورة"، ثم قال: "أما سورة الأحزاب فيبدو أن ما سقط منها مبالَغ فيه...". هذه بعضُ عبارات الجابري في كتابه، وللقارئ أن يلحظ في النص الأخير عبارة: (يبدو أن ما سقط منها مبالغٌ فيه)، فتلك العبارة قد يفهم منها القارئ الساذجُ الدفاعَ عن القرآن، لكن القارئ الفطن لن يخفى عليه أنها تتضمن إثباتاً ماكراً لوقوعِ السقط والنقص من كتاب الله. وفي النصين الآخرين نلحظ مثل ذلك التشكيك الماكر، حين يقحم الجابري في كلامه عباراتٍ احترازيةً مثل: (إن كان هناك سقوطٌ بالفعل)، ومثل عبارة: (ما يمكن قوله على سبيل التخمين لا غير، هو أن يكون الجزء الساقط من سورة براءة ...). فمثل هذه التعابير المشككة هي التي عناها الشيخ البراك حين تحدث عن مهارة الجابري في التمويه والمخادعة"، انتهى كلام الشويقي. ولا شك أن هذا الكلام الذي نقله الأستاذ الفاضل الشويقي يثبت بالدليل القاطع أن الجابري يقول بنقص القرآن لولا أن الشويقي مارس التمويه على القارئ فنقله مبتورا من سياقه فصار كلاما فظيعا مستبشعا؛ فما السياق الذي جاء به هذا كلام الجابري هذا ؟ كل هذا الكلام الذي نقله الشويقي قاله الجابري تعليقا على أقوال العلماء والأحاديث التي تذكر أن سورة (الأحزاب) وسورة (براءة) كانتا أطول مما هما عليه في المصحف اليوم ثم رفع جزء منهما بعلم الله ومشيئته كما قرر علماء السلف، فقد أورد الجابري قبل التعليقات التي نقلها الأستاذ الشويقي ما يلي: ((يقول القرطبي عند تفسير سورة الأحزاب... وكانت هذه السورة تعدل سورة البقرة وكانت فيها آية الرجم ونصها: ((الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم)) وبعد أن يشير إلى أن هذا روي عن أبيّ بن كعب أحد كتاب الوحي وجامعي المصحف، يضيف قائلا ((وهذا يحمله أهل العلم على أن الله تعالى رفع من سورة الأحزاب إليه ما يزيد على ما في أيدينا منها وأن آية الرجم رفع لفظها، ثم يذكر رواية عن عائشة زوج النبي جاء فيها أنها قالت ((كانت سورة الأحزاب تعدل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مائتي آية فلما كتب المصحف لم يقدر منها إلا على ما هي الآن)) انتهى كلام الجابري (مدخل إلى القرآن الكريم/223). وقال عن سورة براءة: "يذكر القرطبي في بداية تفسيره لسورة براءة ( التوبة ) وفي سياق عرضه للروايات التي تتناول عدم وجود البسملة في أولها ما يلي ((قال مالك في ما رواه ابن وهب وابن قاسم وابن عبد الحكم: إنه لما سقط أولها سقط (بسم الله الرحمن الرحيم) معه، وروى ذلك ابن عجلان أنه بلغه أن سورة (براءة) كانت تعدل البقرة أو قربها فذهب منها، فلذلك لم يكتب في بدايتها ((بسم الله الرحمن الرحيم )) ، وقال سعيد بن جبير: كانت مثل سورة البقرة، وعن حذيفة قال: ما تقرؤون ربعا؛ يعني (براءة)". انظر (مدخل إلى القرآن الكريم/223-224). إذن قول الجابري ((ولا نعتقد أن ما سقط منهما من الآيات)) وقوله ((الجزء الساقط من سورة براءة)) وغيرها من العبارات التي أوردها الأستاذ الشويقي وشنع على الجابري بها إنما قالها الجابري تعليقا على تلك الروايات في كتب الحديث والتفسير التي تتحدث عن السقط، فكلمة (السقط) ليس من تعبير الجابري بل هي موجودة في تلك الروايات كما أورتها سابقا، ويفهم من كلام الجابري أنه يشكك بهذه الروايات وذلك في قوله ((إن كان هناك سقوطٌ بالفعل))، وكانت أمانة العلم والعدل في النقد تحتم على الأستاذ الشويقي أن يشير إلى أن كلام الجابري قاله معلقا على ما روى حول السورتين (الأحزاب وبراءة). ولنورد أنموذجا آخرا على البتر والتمويه الذي مارسه الأستاذ الفاضل الشويقي، يقول الشويقي ((وللقارئ أن يلحظ في النص الأخير عبارة: (يبدو أن ما سقط منها مبالغٌ فيه)، فتلك العبارة قد يفهم منها القارئ الساذجُ الدفاعَ عن القرآن، لكن القارئ الفطن لن يخفى عليه أنها تتضمن إثباتاً ماكراً لوقوعِ السقط والنقص من كتاب الله))، انتهى كلام الشويفي. حسنا دعونا الآن ننقل عبارة الجابري كاملة، قال الجابري ((أما سورة الأحزاب فيبدو أن ما سقط منها مبالغ فيه (يقصد الروايات الحديثية التي تروي أنها كانت مائتي آية) وحجتنا على ذلك (أي على أنها مبالغ فيها) هو أن عمر بن الخطاب وغيره ذكروا آية واحدة كانت فيها وسقطت وهي آية ((الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم)) والسؤال الذي يفرض نفسه هو التالي: لماذا وقع تذكر هذه الآية وحدها من دون الباقي المفترض فيه أنه محذوف منها؟ ومما يشكك في كون أن ما حذف من سورة الأحزاب كان أكثر من آية (الشيخ والشيخة) ما نسب إلى عائشة زوج النبي من أنها قالت ((إن هذه السورة كانت مكتوبة في صحيفة في بيتها فأكلتها الداجن))، ونحن نميل مع ابن عاشور في اعتراضه على هذا بقوله ((ووضع هذا الخبر ظاهر مكشوف فإنه لو صدق هذا لكانت هذه الصحيفة قد هلكت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أو بعده والصحابة متوافرون وحفاظ القرآن كثيرون فلو تلفت هذه الصحيفة لم يتلف ما فيها من صدور الحفاظ))، وحتى إذا استبعدنا فكرة الوضع فإنه من الجائز أن يكون ما اعتبر محذوفا من سورة الأحزاب هو نفسه في سورة أخرى كما ذهب إلى ذلك ابن عاشور حيث قال ((وأنا أقول: إن صح عن أبيّ ما نسب إليه – حول سورة الأحزاب – فما هو إلا أن شيئا كثيرا من القرآن كان أبيََُّ يلحقه بسورة الأحزاب وهو من سور أخرى من القرآن مثل كثير من سورة النساء الشبيه ببعض ما في سورة الأحزاب أغراضا ولهجة مما فيه من ذكر المنافقين واليهود، فإن أصحاب رسول الله لم يكونوا على طريقة واحدة في ترتيب آي القرآن كماً ولا في عدد وتقسيم سوره) (مدخل إلى القرآن الكريم/231-232) انتهى كلام الجابري. ولاشك أن القارئ الآن أدرك فداحة التمويه الذي مارسه الأستاذ الفاضل بندر الشويقي نتيجة بتره كلام الجابري، وكأني بالجابري حينما يقرأ بتر كلامه وتشويهه يتمثل بقول الشاعر: إذا محاسني اللاتي أُدلُّ بها ....... أضحت مساوي قل لي كيف أعتذر إذ لا أعتقد أن الباحث المنصف سيجد كلاما أفضل من كلام الجابري هذا الذي بتره الشويقي في الرد على من قال بوجود نقص في سورة الأحزاب، إذ بالغ في رده حتى اضطر للحكم على حديث بالوضع لينفي النقص. نعم يبقى هنا إشكال وهو أن الجابري هنا أكد سقوط آية (الرجم) فقط كما رواها عمر بن الخطاب، والجابري هنا يختلف مع علماء الحديث فالعلماء ذكروا أنها منسوخة اللفظ، والجابري يرى أن الصحابة لم يضعوها في المصحف لأنها رواية آحاد وشرط القرآن التواتر (مدخل إلى القرآن الحكيم/224). ونختم الحديث عن هذه القضية بطرح تساؤل: هل معنى هذا أن الجابري يتفق تماما مع رؤية أهل السنة المجمع عليها حول حفظ القرآن من الزيادة والنقصان؟ من قراءاتي المتفحصة لكتابه ومن خلال مناقشته شفهيا كفاحا اتضح لي أنه هو نفسه لا يقول بنقص القرآن ولا بزيادته، وأن الروايات التي نصت على النقص – إن ثبتت – لا تُحْمل على النسخ بل تحمل على أنها روايات آحاد، وكان الصحابة يشترطون شهادة اثنين ويردون رواية الواحد في كتابتهم للقرآن، وكل ذلك بعلم الله ومشيئته، وقد وجدته بالغ في رد بعض الروايات إلى حد حكمه على حديث عائشة عن الداجن بالوضع كما نقلت كلامه سابقا. لكنه في الوقت نفسه يخالف الرؤية المجمع عليها عند أهل السنة بقوله:إنه ليس هناك دليل قاطع على عدم حدوث زيادة أو نقصان في القرآن؛ لأن من قام بجمعه ليس معصوما، وإذا احتُج عليه بقوله تعالى ((إنا نحن نزلنا القرآن وإنا له لحافظون)) رد بالقول إن الضمير في (له لحافظون) راجع للرسول صلى الله عليه وسلم، أي لحافظون الرسول من الجنون لأن الآية جاءت بعد قوله تعالى ((وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون)). وهذا التفسير قاله من قبله ابن السائب ومقاتل حيث قالا ((إنها ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فالمعنى: لحافظون له من الشياطين والأعداء)) انظر: (زاد المسير في علم التفسير: 4/384). وأما الاحتجاج عليه بالإجماع فيرده بأنه لا يرى الإجماع حجة. ولا شك أن قوله هذا من وجهة النظر الشرعية خطأ كبير وقصارى القول فيه إنه شبهة تنتقد على الجابري ، ويٌرد عليه بأسلوب علمي محكم بعيد عن الإثارة وتحشيد العوام واستعدائهم، والتهويل بالفتاوى واتهام النيات. يبقى الحديث عن قول الأستاذ الفاضل الشويقي ((ولا أدري من أين للضحيان أن الشيخ لم يطلب الكتاب كاملاً؟! فالذي أعلمه أن كتاب الجابري قد قرئ على الشيخ قبل أكثر من ستة أشهر، حين رغبَ الشيخ في الوقوف على قول الجابري من خلال كتابه، وليس من خلال نقل الآخرين))، قلت: الذي يتضح لي من خلال قراءة فتوى البراك أن الشيخ الجليل لم يسبق أن قرأ الكتاب ولم يطلع عليه البتة، حتى الذين عرضوا الفتوى على الشيخ لم يقرؤا الكتاب وكانوا في عجلة من أمرهم وكان جل مرادهم التأثير في الرأي العام وإحداث ضجة ولاستعداء السلطة لمنع الجابري من إلقاء محاضرته، والدليل على ذلك أن الشيخ البراك لو أنه قرأ الكتاب حقا لوجد فيه أخطاء كثيرة جدا وبعضها كبير، ولنبه عليها وأنكرها على الجابري، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فمن تلك الأخطاء أن الجابري يرى أن قصص القرآن لا تعبر عن حقائق تاريخية بل هي من ضرب المثل (مدخل إلى القرآن الكريم/259) وهو القول الذي قال به من قبله محمد خلف الله وأثار ضجة كبيرة وصلت إلى حد تكفيره. ومنها أيضا أنه يرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعرف القراءة والكتابة (مدخل/77)، وغيرها من الأخطاء التي أجزم لو أن الشيخ البراك أو الذين قدموا له الفتوى قرأوا الكتاب لكتبوا عنها في السؤال الموجه إليه. وبعد لماذا أكتب للدفاع عن الجابري؟ ليس الأمر دفاعا عن الجابري بل دفاع عن المنهج الإسلامي الوسطي في التعامل مع الأشخاص والأفكار، إذ إن واقعنا الإسلامي المحلي يعاني من التأزم تجاه كثير من الأفكار والرؤى والأشخاص الذين يختلف معهم في قليل أو كثير، هذا التأزم أنتج لدينا شريحة من المتدينين المتحمسين تحولت مهمتها إلى ملاحقة العلماء، والمفكرين ، والمثقفين المعاصرين وغيرهم عبر التاريخ الإسلامي الطويل، ونصبت لهم محاكم تفتيش من خلال نصب ميزان لقياس مدى مطابقتهم للإسلام الذي يجب أن يُفْهم من خلال فهم تلك الشريحة المتحمسة، وللشيخ سلمان العودة تعبير طريف عن تلك الشريحة حيث يسميها (جماعة الميزان)، وأصبحت محل تندر في مجالس كثير من طلبة العلم فيقول أحدهم للآخر: انتبه لقولك لئلا تزنك جماعة الميزان بميزانها، هذه الشريحة تتعامل مع الدين والفكر على أنه مجرد معركة مع خصوم تسعى لاسقاطهم يجوز في تلك المعركة استخدام كل الوسائل من تشويه، ومغالطات، واستحلاب فتاوى من مشايخ فضلاء مخلصين، واستعداء للسلطة وعوام المتدينين بعيدا عن منهج الإسلام في التعامل مع المخالفين القائم على الرحمة والعدل والإنصاف مصداقا لقول تعالى ((ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا)). وهذه الطريقة في النقد التي تمارسها (جماعة الميزان) سبق أن اتبعها فريق من الإسلاميين في التسعينات وانخرطوا في تتبع الدعاة وطلبة العلم والتفتيش الانتقائي عن أخطائهم وتشويههم أمام الرأي العام، ومازال يستخدمها بعض اليساريين في نقدهم للإسلاميين، كما في كتابات رفعت السعيد عن جماعة الإخوان المسلمين، ويستخدمها غلاة العلمانيين في نقدهم للإسلاميين والصحوة كما في كتبات مأمون فندي، والعفيف الأخضر وكل ما أخشاه أن ينجر إلى تلك الطريقة وإلى (جماعة الميزان) الأخ الفاضل الأستاذ بندر الشويقي وليس بيني وبينه معرفة شخصية لكن من متابعتي لبعض ما يكتب – خاصة حواره مع حسن المالكي ورده على حسن الصفار - وجدت لديه استعدادا فكريا جيدا للإنتاج الفكري المستقل لو انفتح على آفاق فكرية أرحب من واقعه المحلي الضيق، لكني أخشى عليه من أن يتهور بالانخراط مع تلك الجماعة من حيث لا يشعر فيفقد المصداقية ويتحول إلى منظِّر لجماعة الميزان تتركز جهوده الثقافية في تفتيش كتب العالم الفلاني أو المفكر الفلاني في قراءة أيديولوجية انتقائية ليتصيد كلمة من هنا وكلمتين من هناك ثم يبنى عليها رؤية متكاملة عنه، خاصة أن جهود تلك الجماعة تثير ضجيجا وتصفيقا مدويا عند جمهور من المتدينين البسطاء والسذج، فربما اختصر الأستاذ الفاضل بندر المجتمع بذلك الجمهور الساذج من حيث لا يشعر. والنقد الإسلامي الحق ينظر إلى الكليات مع التجاوز عن الخطأ في الجزئيات مع حسن الظن والرفق والكلمة الطيبة والبحث عن الأعذار والرحمة بالمخالف والدعاء له وعدم غمطه حقه مصداقا لقول تعالى "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا". د. سليمان الضحيان العربية