لتأكيد الذات والرضا عنها يتحدث كل إنسان عن نفسه ويكرر الأنا: أنا عملت، وحققت أنا، وبذلت...، ويضيف أحيانا ليزكي نفسه فيقول: وأعوذ بالله من الأنا ويستمر ذلك حتى يصل الحديث إلى الوالد والأسرة والقبيلة.. وقد عرف الغرور قديما وسيتم ذكر بعض الأمثلة: أولا:الملوك المصفدة في جبل خزازى بنجد! وهاهي قبيلة الشاعر عمرو بن كلثوم صاحب المعلقة الشهيرة توقد النار على جبل خزازى (جبل بنجد) إيذانا ببدء الحرب: ونحن غداة أوقد في خزازى رفدنا فوق رفد الرافدينا فكنا الأيمنين إذا التقينا وكانوا الأيسرين بنو أبينا وصالوا صولة فيمن يليهم وصلنا صولة فيمن يلينا فأبوا بالنهاب والسبايا وأبنا بالملوك مصفدينا إنه الغرور يملأ نفس الشاعر لأن قومه في أوساط نجد:جبال، وأودية، وسهوب تتوزعها القبائل ولا يوجد بها ملك واحد ليصفدوه في عهد عمرو بن كلثوم وإنما يوجد ملوك الحيرة وملوك الغساسنة بعضهم يتبع الفرس والاخر يتبع الروم وبعيدون كل البعد عن جبل خزازى ولكنه الغرور ولم يكن للشاعر ولا لقبيلته قدرة على الاقتراب منهم ولا يوجد في جبال نجد وفجاجها بحر ولا نهر ومع ذلك يغلو عمرو بن كلثوم في الأنا والغرور ويقول: ملأنا البر حتى ضاق عنا وماء البحر نملؤه سفينا ويبلغ الغرور مداه: إذا بلغ الفطام لنا صبي تخر له الجبابر ساجدينا هذا الغرور والغلو في الأنا لدى صاحب المعلقة أثر في قبيلته واعتزوا بالمعلقة واعتمدوا في سمعتهم عليها والتهوا بها حتى هجاهم أحدهم بقوله: ألهى بني تغلب عن كل مكرمة قصيدة قالها عمرو بن كلثوم وهناك ملاحظتان: 1- يفخر الشاعر حتى على بني أبيه وأبناء عمه حيث عادوا بالنهب والسلب والسبايا أما هو فقد صفد الملوك وعاد بهم إلى جبل خزازى بنجد. 2- كلمات المعلقة سهلة بسيطة مفهومة للجميع رغم أن بيننا وبينها أكثر من (1500) عام. ثانيا: إياكم أن تكونوا من صرعى زياد: جمع الناس في مسجد البصرة وارتقى المنبر وصال وجال ببصره يمنة ويسرة وألقى خطبته المشهورة التي تملأ القلوب خوفا ورعبا وإشفاقا " وأيم الله إن لي فيكم لصرعى كثيرة، فليحذر كل امرئ منكم أن يكون من صرعاي " وأكثر ما يميز تعبيرات هذه الخطبة هو الأنا ففي سطر واحد من الخطبة (إن لي) و(صرعاي) وهذا الانفعال والهيجان في الغرور وقوة الارادة يؤدي الى الميل في استخدام القتل والتجاوز في ذلك وهو ما عبر عنه زياد مع انه ابن ابيه وغيره من الذين اسرفوا في اهلاك الانفس دون مبرر الا إشباع الغرور والغلو في الأنا ثالثا: الغلو في الأدب والشعر العربي: الغلو في القصائد الشعرية التي تخاطب الملوك والخلفاء والرؤساء هذا الغلو لا يمكن حصره والشاعر داخليا يعرف بأنه كاذب متملق، فإذا انصرف عن ممدوحه أقر بالحقيقة: أبا دلف يا أكذب الناس كلهم سواي، فإني في مديحك أكذب رابعا: حتى أنت أبا محسد: إنه أبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي مالئ الدنيا وشاغل الناس شرح شعره مئات المرات وأعجب به الفلاسفة والشعراء ومنهم أبو العلاء المعري الذي شرح شعر المتنبي في كتاب أسماه معجز أحمد وشعره يتمثل به الأدباء والخطباء وكل بيت من شعر المتنبي حكمة بل وأنصاف الأبيات، أليس القائل: - ليس التكحل في العينين كالحل (نصف بيت) - مصائب قوم عند قوم فوائد (نصف بيت) - أنا الغريق فما خوفي من البلل(نصف بيت) ويعتز بنفسه أيما اعتزاز ونسب إلى السيف والرمح وإلى الحرب والبأس: فالخيل والليل والبيداء تعرفني والضرب والطعن والقرطاس والقلم وتأتيه الحكم دون جهد: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم ويريد من زمنه أن يبلغه شيئا في نفسه لا يبلغه الزمن نفسه: أريد من زمني ذا أن يبلغني ما ليس يبلغه في نفسه الزمن كم قد قتلت وكم قد مت عندكم ثم انتفضت فزال القبر والكفن ويمضي الاعتزاز بنفسه لا بقومه: ما بقومي شرفت بل شرفوا بي وبنفسي فخرت لا بجدودي وصدق: وما الدهر إلا من رواة قصائدي إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا فسار به من لا يسير مشمرا وغنى به من لا يغني مغردا كل ما سبق وغيره كثير من الغلو والاعتزاز بالنفس ولك الحق أبا محسد إلا فيما يلي: أي محل أرتقي أي عظيم أتقي وكل ما خلق الله وما لم يخلق محتقر في همتي كشعرة في مفرقي ينتسب الشاعر المتنبي إلى قضاعة والكاتب من قضاعة وهذا نوع من الغرور..