هي خصلة من خصال العرب، وميزة من ميزاتهم، مستساغ في الأدب مذموم في غيره، رددته ألسنة غالبية الشعراء، وتنوعت أساليبهم لتنميقه، إنه لغة الأنا، تلك اللغة الاستعلائية، بغض النظر عن صدق الأديب أو كذبه فيما يدعيه. وقد حاولت في ورقاتي هذه أن أتناول لغة الأنا، بين شاعرين من عصرين مختلفين، الأول من العصر الجاهلي، وهو: عمرو بن كلثوم، والثاني من العصر العباسي، وهو: أبوالطيب المتنبي، وقد عمدت إلى جعل العصر متباينًا؛ لتوسيع مجال المقارنة والقياس، ثم لمحاولةٍ - وإن كان فيها شيء من القصور- لإظهار بعض الفوارق بين العصرين في تناولهما لهذه اللغة. الفخر في كلا العصرين لم يكن غريبًا، وأخُصُّ من الفخر الزهو بالنفس، فالشاعران عمرو بن كلثوم، وأبوالطيب المتنبي كانا ذا مآرب، يود كل واحد فيهما بلوغها، وكانت هذه اللغة -أي لغة الأنا- متنفّسًا لهما، أو هي قمة التصور الشخصي لهممهما. لم يكن عمرو بن كلثوم مجرد شاعر لقومه، متى ما تسلطه الشعر أنشأ قصيدة في مدح أو ذم، بل كان من علية قومه،كما يقول: إن تسألي تغلبا وإخوتهم ينبوك أني من خيرهم نسبا وما كانت نفسه تقبل التواضع أبدًا، أو القناعة بما دون المجد الجاهلي أبدًا، أما أبوالطيب المتنبي ذلك الشاعر المثير، فيرى أن له مجدًا مفقودًا، أصابه غيره، وعليه أن يحاول بحكمةٍ الحصول عليه. إن تعظيم عمرو بن كلثوم لنفسه لم يكن مجردًا؛ بل لأنه جزء من تغلب، ولذا نجدهم دائمًا في أغلب قصائده التي يذكر فيها نفسه، فهو يفتخر ليس فقط أنه من تغلب، بل من أفضلهم نسبًا، ولم يكتفِ بهذا، بل أردف البيت بيتًا قاد فيه الفخر لقومه: إن تسألي تغلبا وإخوتهم ينبوك أني من خيرهم نسبا أنمي إلى الصيد من ربيعة وال أخيار منهم إن حصِّلوا نسبا لم يكن الحال عند المتنبي على هذا النحو، ففخر المتنبي بذاته لذاته، فهو بسمة القدر لهذه الحياة، كل ما فيها أقلّ قدرًا منه، ويصل بنا إلى قمة اعتزازه بنفسه، فيقول: أي محل أرتقي أي عظيم أتقي وكل ما قد خلق الله وما لم يخلق محتقر في همتي كشعرة في مفرقي كانا يريان أنهما خير الناس في قصائدهما، ولكن عمرو بن كلثوم يرى أن أعين الناس تراه كما يرى نفسه هو، كما في البيتين السابقين، فهو يطلب منها، أن تسأل قومه عنه. أما أبو الطيب المتنبي فيرى أن الظروف جعلت غيره يأخذ ما يستحقه، فأبياته السالفة لا تجعل لغيره من وجهة نظره مجالا لبلوغ مكانته، ويقول: ودهرٌ ناسه ناسٌ صغار وإن كانت لهم جثثٌ ضخام وما أنا منهمُ بالعيش فيهم ولكن معدن الذهب الرّغام أرانب غير أنهمُ ملوكٌ مفتحةً عيونهمُ نيام المُلْك هو ما يستحقه أبوالطيب المتنبي، وما كان مَدْح أبي الطيب للملوك لجلب المال، بل إنه يعتبرها تهمه: توهم القوم أن العجز قربنا وفي التقرب ما يدعو إلى التهم فمدحه للملوك والأمراء هي لأغراض أخرى، كما صرح بأحدها في قصيدته (واحر قلباه)، إذ يقول: واحر قلباه ممن قلبه شبم ومن بجسمي وحالي عنده سقم مالي أكتم حبا قد برى جسدي وتدعي حب سيف الدولة الأمم إن كان يجمعنا حب لغرته فليت أنا بقدر الحب نقتسم فما كانت المدائح التي يقولها المتنبي لسيف الدولة تزلّفًا للحصول على المال، كغيره من الشعراء، وكيف يحدث هذا وهو يرى أنه هبة هذه الحياة وسيدها؟! وإنما حب الصديق موردها. وإذا نظرنا إلى لغة الأنا عند عمرو بن كلثوم نجد أنها مغلفة بالفخر بقومه، فهو وقومه روح واحده، إن لمع أحدهم فالثناء عائد للقبيلة كلها، لذا نجده يقول: بأي مشيئة عمرو بن هند نكون لقليكم فيها قطينا بأي مشيئة عمرو بن هند تطيع بنا الوشاة وتزدرينا بأي مشيئة عمرو بن هند ترى أنا نكون الأرذلينا تَهَدَّدْنا وأوْعدْنا رويدا متى كنا لأمك مقتوينا فإن قناتنا يا عمرو أعيت على الأعداء قبلك أن تلينا مع أن عمرو بن كلثوم هو الذي قتل عمرو بن هند، ولكنه نسبه إلى قومه، فمجدهم واحد، وقولهم واحد، وفعلهم واحد، ويقول، مع ملاحظة إتباع قومه بعد الفخر بذاته في المدح: أنذرت أعدائي غداة قناة حديا الناس طرا لا مرعيا مرعا لهم ما فاتني أمسيت حرا حلوا إذا ابتُغِيَ الحلاوة واستحب الجد مرا كم من عدو جاهد بالشر لو يسطيع شرا يغتاب عرضي غائبا فإذا تلاقينا اقشعرا يبدي كلاما لينا عندي ويحقر مستسرا إني امرؤ ابدي مخالفتي وأكره أن أسرا من عصبة شم الأنوف ترى عدوهم مصرا ولكن مع كل هذا الاعتزاز بقومه، لم تترك نشوة الشعر الشاعر قريبا من المعقول، بل أودت به إلى الكثير من المبالغة، فكانت عباراته أشبه عند إلقاءها بالزلزال، وماذا ننتظر بعد قوله: كأنا والسيوف مسللات ولدنا الناس طرا أجمعينا إنه الاستحواذ على العقل بهذه اللغة -أي لغة الأنا-، فلا حدود لعالمها، ولذا لم يقف عند هذا الحد، بل جعل نفسه منبعًا من منابع السؤدد لقبيلته، فمجدهم عالة عليه، حيث يقول: ليهنئ تراثي تغلب ابنة وائل إذا نزلوا بين العذيب وخفان بهذا بلغ عمرو بن كلثوم هرم المجد الجاهلي، فلم يكن كريما وشجاعا فقط، بل أصلا يحتذى به. وكما أن عمرو بن كلثوم كانت لغة الأنا لديه مغلفة بالفخر بقومه، فالمتنبي كذلك، ولكنه لم يكن مغلفا بالفخر بقومه، بل كان مغلفا أحيانا بالعتاب والهجاء، فبيته الشهير: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم لم يكن فخرًا مجردًا، بل فيه تعريض بقلة الفهم لسيف الدولة، ف(أدبي) رآه الأعمى ولم تره، والأصم سمع كلماتي ولم تسمعها، والدليل على وجود رائحة العتاب في البيت قيام القصيدة كلها على العتاب، ف(واحر قلباه) من حب لم أُجازَ بنظيره، وقدمت غيري وهو أقل وُداً لك مني، ويقول أيضا: يا أعدل الناس إلا في معاملتي فيك الخصام وأنت الخصم والحكم ويسوقني هذا إلى الحديث عن ظاهرة عند المتنبي، فهو لعظم مكانته في نفسه - فلا يرى أحدًا يقترب من قدره- لم يُخلِص في مدائحه المدحَ لممدوحه، بل كان للغة الأنا نصيب في مدحه للملوك والأمراء، فبيته السابق الذكر: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم مع مجموعة أبيات أخرى في القصيدة يبالغ في مدح ذاته فيها من ضمن مدائحه لسيف الدولة، ويقول في قصيدة أخرى كانت لمدح المغيث بن علي العجلي: ودهرٌ ناسه ناسٌ صغار وإن كانت لهم جثثٌ ضخام وما أنا منهمُ بالعيش فيهم ولكن معدن الذهب الرّغام ويقول بعد عدة أبيات: ولم أر مثل جيراني ومثلي لمثلي عند مثلهم مقام ومثل هذا كثير لديه. ويفخر المتنبي بشعره، وأنه معجز كشخصه، في حين أن أنه شارك عمرو بن كلثوم في الفخر بالكرم والشجاعة، فيقول: أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم إن نظرة المتنبي لذاته أنه كامل بها، أما عمرو بن كلثوم فهو عضو من الجسد الكبير (أي القبيلة)، حتى وإن كان هذا العضو أهم أعضاء الجسم، إلا أنه لم يصرح بمديحه لذاته مجردة من قومه. ولعل كلٌ يمثل طبيعة عصره الذي يعيش فيه، فالعيش الكريم في العصر الجاهلي هو لمن كان فارسًا شجاعًا، ينتمي لقبيلة شديدة البأس، كريمة النسب. أما العصر العباسي، وبالتحديد الفترة التي عاش فيه المتنبي، فالعيش الكريم فيها لكل من تعلق ببلاط الملوك والأمراء، ولكن يبدو أن طموح المتنبي لم يكن أبدا غايته التعلق بهذا البلاط، بل أبعد من هذا وأسمى. وبالنظر إلى طموح كلا الشاعرين نجدهما قد تعلقا بغاية السؤدد في عصرهما، فالشجاعة، والكرم، والنسب الكريم، والقبيلة المرموقة لعمرو بن كلثوم، والملك للمتنبي. يحاول عمرو بن كلثوم حين يفخر بذاته أن يجعلها القوة الطاغية، حتى وإن كان بمفرده، ثم يستعرض بعض المكارم التي لا تنبئ عن قوة كالصبر، في قوله: ألم تر أنني رجل صبور إذا ما المرء لم يهمم بصبر وأني بالذنائب يوم خومننت على حذيفة بعد أسر ولو غيري يجيء به أسيرا لنال به رغيبة ذخر دهر فهو رجل صبور، لا من ضعف، وإنما كرم خلق، ونلاحظ اهتمامه بالمقارنة؛ لإظهار الذات بتغلبها على منافسها، ولذا نجده يقول مادحا أسيره: ولكني مننت وكان أهلا لما أوليت في حمل بن بدر فالقوة لا تتجلى في التغلب على الضعيف، بل في التغلب على الشجاع الكريم، وهو الند الحقيقي. أما المتنبي فما كان يرى أحدا منافسًا له، بل له السيادة، وما أوردت له من أبيات سابقة، ك(أي محل أرتقي...)، و(أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي...)، وغيرها حتى مما لم أذكر- خير دليل على هذا. ولكن إن أنعمنا النظر في فخر كلا الرجلين بذاته، وجدنا أن عمرو بن كلثوم أقرب إلى الموضوعية -لكنه لم يكن موضوعيًّا- من المتنبي، فلغة نحن -إن صحت التسمية- لدى عمرو بن كلثوم -وهي الأكثر لديه- تخفف وطأة التعالي بالذّات، أما المتنبي فجنون العظمة يبدأ من اسمه المتنبي، وحتى آخر بيت أنشده. وعلى ضوء هذا نستطيع أن نقول إن عمرو بن كلثوم كان هو الأقرب إلى غايته من المتنبي. (*) عضو الجمعية السعودية للخط العربي [email protected]