كيف يحدث هذا في غزة ولماذا يتكرر بنفس الصورة.؟ تذكرت هذا السؤال وأنا أشاهد صورة رجل امن فلسطيني في احد الكتب عن فلسطين تقول العبارة التي كتبت أمام هذه الصورة (شرطي فلسطيني يحمل طفلة فلسطينية في اثر حادث نسف عند باب العامود في القدس) هذه الحادثة وقعت في أواخر العام 1947م، أي قبل أكثر من ستين عاما وهو نفس المشهد الذي يتكرر فيما بثته وسائل الإعلام العربية وبعض العالمية عن رجل يحمل طفلة مصابة أو طفلة فارقت الحياة في أحداث غزة. استخدمنا نحن العرب نفس الأسلوب المستخدم اليوم في الشجب والاستنكار خصوصا قبل ستة عقود ولكن وبعد سنة من هذا الحادث للشرطي الذي يحمل طفلة أعلن العالم عن قيام دولة إسرائيل. ظل المشهد يتكرر طوال هذه السنوات ونحن العرب نمارس ذرف الدموع بينما إسرائيل تمارس إراقة الدماء لتحقق أهدافها ولم يتبق إلا القليل من الأرض الفلسطينية لم تسيطر عليه إسرائيل ولكن دموع العرب بقي فيها الكثير لتذرفه قبل أن تكمل إسرائيل احتلال الأرض بكاملها. اليهود لم تعد تؤلمهم أو تؤلم مؤيديهم مناظر الأطفال القتلى والبكاء العربي لأنهم اقنعوا العالم منذ أكثر من ستين عاما بأن ما يفعلونه هو في سبيل أمنهم، على الجانب الآخر بقي العرب غير قادرين على إقناع العالم بأن إسرائيل تأكل أرض فلسطين وتأكل الشعب الفلسطيني يوما بعد يوم. لماذا بقي الإعلام العربي يدور في محيط العالم العربي بينما عملت إسرائيل ومسؤولوها ومنذ عقود طويلة على عملية انتشار واسعة النطاق في الإعلام العالمي لتبرر موقفها الذي كان ولا يزال موقفا عدائيا فحتى السلام الذي تطرحه إسرائيل اليوم تطرحه بلغة عدائية. لازالت الشعوب العربية وحتى بعد هذا الزمن الطويل من الصراع مع إسرائيل تختلف كثيرا في تفسيراتها لما يحدث على الأرض لان التفسير الحقيقي يجب أن يعود إلى التاريخ الذي ارتبطت به قضية فلسطين. في شهر مايو من العام 1942م وفي (فندق بلتمور) في نيويورك أعلنت الحركة الصهيونية برنامجها لتحويل فلسطين إلى دولة يهودية واستطاعت هذه الحركة القيام بخطط استراتيجية لتحويل فلسطين إلى دولة يهودية وبعد أكثر من ستة عقود من ذلك التاريخ يشهد العالم اليوم دولة يهودية عضوا في منظمته العالمية. هكذا عمل اليهود وسخروا العالم من اجل قيام دولتهم فلم يتأخروا في فعل كل شيء من اجل أهدافهم، ففي العام 1947وفي شهر نوفمبر وحتى قيام الدولة الإسرائيلية في العام ثمانية وأربعين نفذت إسرائيل حوالي مائتي حدث شكلت سلسلة الأحداث التاريخية التي أسست لقيام دولة إسرائيل وقد كانت عمليات القتل والتشريد والتهجير والاعتقال والإرهاب ضد السكان الفلسطينيين المحور الرئيس لهذه الأحداث. هذه هي اللغة التي تفهمها إسرائيل وبدأت بها وسوف تنتهي بها لذلك هي لن تتوقف عن القتل والتدمير لمجرد بكاء العرب أو لمجرد قتل طفل فنفس الطفل الذي قتل الأسبوع الماضي هو نفسه الذي قتل قبل ستة عقود، لن يتغير شيء سوى مزيد من البكاء والعاطفة التي تخرج الأزمة السياسية عن مسار الحل الصحيح. إدارة الأزمة السياسية وخصوصا قضية فلسطين لم تكن يوما في أجندة الدول العربية حتى الأطفال في العالم العربي والأجيال التي نشأت منذ احتلال فلسطين وبعد قيام الدولة الإسرائيلية لا تفهم القضية إلا من خلال بعد عاطفي مضاد قليل التناول للمنطق في إدارة الأزمة. نعم نعلم نحن المسلمين أن اليهود هم قتلة الأنبياء وهم الذين دسوا السم لنبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) وهم من حاربه وهم من فعل وفعل ولكن ما فائدة هذا المعرفة إذا لم يكن لدينا طريقة للتفكير في فلسفة هؤلاء القوم بدلا من الصمت والبكاء فقط عندما يوقعون القتلى. جامعة الدول العربية مطالبة وعبر دولها بإستراتيجية عربية لعرض القضية الفلسطينية على الأجيال وجعلها جزءا من مشروع تربوي توعوي لهم لفهم القضية بمنطقية وعقلانية تتمكن بها هذه الأجيال من إدراك دورهم الحقيقي وليس الدور العاطفي المنتهي بالتأمين على الدعاء على اليهود دون فهم لماذا هم هناك وكيف يمكن أن نقدم لإخواننا هناك عونا يعتمد على حلول وإدارة سياسية توقف هذا النزف. إن أخشى ما أخشاه أن تكون عيوننا تعودت على البكاء على الأرض المحتلة ولذلك قد تكون مناسبة قتل سنوية تضطر إسرائيل للقيام بها من اجل إفراغ دموعنا كل عام من أعيننا. هذه ليست دعابة بل هي حقيقة فمنذ العقود الستة التي ذهبت بعد وجود الدولة اليهودية لم نعهد سوى البكاء والعاطفة الجياشة التي أغرقت حتى الأرض المحتلة نفسها بالأفكار والأيديولوجيات الدخيلة. إسرائيل وهي تسير في عقدها السابع ترغب التحول من إستراتيجية الاحتلال العسكري إلى إستراتيجية الاستقرار وهذا ليس سوى استجابة للضغوط الشعبية هناك والضغوط العالمية على هذه الدولة التي مهما بقيت قوتها العسكرية إلا أنها في داخلها ترغب في وضع نهاية حقيقية لمسلسل الصراع فلماذا لا نستثمر هذه الفرصة. إسرائيل تؤلمها المقاومة ويؤلمها الضغط الدولي ولكن أكثر ما سوف يؤلمها أن يأتي جيل من أبناء العرب بمنطقية بعيدة عن العاطفة ليحاكم وجودها ويرسم الخطط لتفسير هذا الوجود بدلا من التغاضي عنه بالبكاء على جثث الشهداء. إن اكبر نجاح حققته إسرائيل خلال السنوات التي تلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر أن دعمت صعود التيارات المتشددة في فلسطين وخصوصا غزة ولولا التعدد الفكري بين الفصائل الفلسطينية لكانت فلسطين اليوم مسرحا دمويا كما يحدث في غزة الآن. إن الفكر الجهادي كفلسفة تاريخية مقروءة لن يحقق أهدافه بمجرد رواية القصص وتشييع القتلى ومن ثم فقدان الأفراد واحدا تلو الآخر. الايديولوجيات الفكرية لن تكون سببا للانتصار ولكن الخطط والتفكير السليم هو المعول الحقيقي لبناء سلام إذا كانت الحرب مطلبا في زمن من الأزمان فقد يكون السلام مطلبا ملحا في زمن آخر ولكن أن تتحول ردود الفعل إلى ممارسات عاطفية فتلك المصيبة لان العاطفة ليست سوى انهيار أمام الحلول المنطقية بل إن العواطف الجياشة لا تقدم سوى حلول ناقصة. العالم العربي اليوم بحاجة إلى إدارة الأزمة مع إسرائيل وفق كل جهود السلام الممكنة ودفع المبادرة العربية إلى المقدمة. إن المنطق التوعوي والتثقيفي هو الهدف الذي يجب أن نقدمه لأجيالنا القادمة وإلا سوف نظل في نفس الدائرة شعوبا تتهم سياسات بلدانها وسياسات لا تدركها الشعوب، في مثل هذه الأزمات اعتدنا أن تتقدم الحملة حناجر مؤدلجة في اغلب الأحيان لتشترك في القضية على طريقتها وهذا له من الآثار الكبيرة الشيء الكثير فنحن العرب معرفون بمواقفنا العفوية التي تصدر كردة فعل للمواقف التي نواجهها. ولكن كل هذا يجب أن لا يوقفنا عن نصرة إخواننا بما نستطيع تلبية لكل جهود محلية أو دولية لتقديم يد العون لهذا الشعب المنكوب. إنني انتظر ذلك اليوم الذي تقام فيه حملة توعية من اجل القضية الفلسطينية وشرح مبادرة السلام التي تقدمت بها المملكة للشعوب العربية وتأسيس مواقف منطقية لنصرة الشعب الفلسطيني ليس على طريقة البكاء ولكن على طريقة الحلول الممكنة لوقف زحف إسرائيل التوسعي والاستيطاني.